مهرجان إدنبره.. منصة دولية لمثقفي الهامش وطغيان قضية الهوية
المهرجان يوفر منصة دولية حقيقية لمثقفي وفناني الهامش، أولئك المبدعون الذين حرمتهم الأصوات والأسماء المكرسة من فرصة الظهور في المنابر.
فوق رماد الحرب العالمية الثانية، وضع مهرجان إدنبره الدولي أولى لبناته عام 1947، لتوفير "منصة لازدهار روح الإنسان".
هذا المهرجان الذي ينعقد في أغسطس (آب) من كل عام، وانطلقت فعاليات دورته الحالية يوم 5 أغسطس لثلاثة أسابيع، يوفر منصة دولية حقيقية لمثقفي وفناني الهامش، أولئك المبدعون الذين حرمتهم الأصوات والأسماء المكرسة من فرصة الظهور في المنابر (الميديا) الرسمية، أو التجارية المعتبرة، فجاء المهرجان ليعطيهم الحق في تأدية عروضهم مجاناً في شوارع أعرق مدينة أسكتلندية، ومنها يحققون وجودهم وانطلاقهم.
هذا المهرجان الذي يرأسه هذا العام السير رودولف بينغ، كان في بداياته مبادرة أهلية خاصة، أراد بها سكان إدنبره مسح غبار الحرب عن جباههم ووجه مدينتهم.
وطوال العقود الماضية أصبح المهرجان بؤرة جذب للفنانين والمبدعين من شتى أنحاء العالم، ثم ما لبث أن نال دعم ورعاية الشركات الكبرى فضلا عن اتحاد الصناعات وجامعة إدنبره، التي تجد في رواد حفلات الموسيقى الكلاسيكية والمسرح والأوبرا والرقص والفنون البصرية، الهدف المبتغى لترويج بضاعتها فتستفيد وتفيد.
وبحسب مدير المهرجان السير رودولف بينغ، الذي يختار عادة موضوعات مشتركة للعروض، فإن المهرجان يبحث عن التميز والتوازن بين ثقافات العالم، الأمر الذي يحوله إلى فرصة للتعارف والتفاهم عبر الإبداع.
خلال ثلاثة أسابيع تتحول إدنبره إلى فضاء مفتوح، يمكنك أن تشاهد العرض الذي تريده من المقهى، أو من شرفة المنزل أو الفندق، أو من فوق الأسطح، أو في الحدائق العامة.. بالمجان طبعاً.
ما الذي يتضمنه المهرجان هذا العام؟
عن هذا السؤال يجيب مدير البرمجة فيرغوس لينهان، بالقول إن عروض هذا العام سوف تكون مقدمة لعروض العام المقبل حيث سيحتفل المهرجان بالذكرى السبعين لتأسيسه، أي "إننا سنستعيد العديد مما قدمناه في الدورات السابقة، لنتعلم منه"، وبالتالي فإن جوهر العروض ما زال هو حفلات الموسيقى الأوركسترالية والعروض المسرحية.
وقد بدأت العروض بالفعل، بحفل موسيقي اشترك به 59 عازفا، أدوا معزوفات على خلفية من الإضاءة الليلية تكلل قلعة إدنبره الشهيرة والعريقة.
الأعمال الموسيقية استعرضت تاريخ المدينة، بمحطاته المثيرة، التي شهدت الكثير من التعقيدات السياسية والعسكرية، فضلاً عن التحديات الجيولوجية والبركانية التي تركت آثارها على المدينة.
والملفت أن فنانين عديدين من ذوي الأصول الأسكتلندية، قد جاؤوا من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، لكي يشاركوا في الإضاءة على تاريخ بلدهم الأم.
وإلى هؤلاء ينضم الموسيقي الإفريقي يوسو ندور، وعدد من الأدباء والشعراء الشباب، المقيمين في أسكتلندا من أمثال فرنسيان تيرسين، وسام فول، وجيسيكا هوب.
وليام شكسبير أيضا، سيكون حاضرا في ذكراه الـ 400، من خلال تقديم عروض مسرحية مستوحاة من أعماله، ومنها “ريتشارد الثالث” لفرقة Shaubuhne البرلينية، ومسرحية Measure for Measure لفرقة مسرح بوشكين الروسية، ومسرحية “الخد” من اقتباس فرنسي لعمل شكسبيري.
هذه العروض وغيرها تبدو كمقدمة للعروض الرئيسية الآتية من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تضيء على علاقة متجذرة ولكنها قليلة الشهرة بين المقاطعة الخاضعة لتاج المملكة البريطانية، والبلد الذي استقبل ووطن آلاف المهاجرين (يقال إن أعدادهم تجاوزت 400 ألف شخص في مطلع القرن العشرين) لكنهم حافظوا على جذورهم المغروسة بين جبال البلاد الشاهقة.
العرض الأبرز بين هذه العروض سيكون لفرقة TEAM التي تأسست قبل عشر سنوات، ويحمل همّا أساسيا هو التأكيد على أن الهجرة الأسكتلندية إلى الولايات المتحدة لم تكن مجرد هجرة ذات طابع تجاري أو اقتصادي، بحسب ما تشيعه السرديات الرسمية. ففي رأي أعضاء هذه المجموعة، الذين ما زالت تطغى على لغتهم لهجة ذات جذور أسكتلندية عميقة، أن أسلافهم عبروا المحيط حاملين معهم أفكاراً تنويرية كان لها أثرها ليس وسط مجتمعاتهم الصغيرة المهاجرة فحسب، وإنما على نطاق أوسع داخل التفكير والثقافة الأمريكية. ففي رأي هذه الفرقة أن الأسكتلنديين أحضروا معهم تفكير أمة مزدهرة: الفلسفة التجريبية من ديفيد هيوم والفردية الاقتصادية من آدم سميث. وهم يستذكرون دائما ما كتبه الأديب الفرنسي فولتير: "إننا ننظر الى أسكتلندا لجمع أفكارنا الحضارية".
العرض يحمل عنوان “أي شيء يعطي ضوءاً”، وفيه يحتشد رعاة بقر أمريكيون أصليون وأسكتلنديون قدموا مع عاداتهم وطموحاتهم وبطبيعة الحال مع شرابهم الشهير الذي يحمل اسم موطنهم: “سكوتش”.
ينطلق هذا العرض من فكرة أساسية، هي أن اللقاء بين الشعوب والجماعات، هو تماما مثل اللقاء بين النباتات: تتلاقح لكنها تحتفظ بعناصر تكوينها الأولى. وهو كان معدا بالأساس، لكي يقدم للمرة الأولى خارج الولايات المتحدة أثناء فترة الاستفتاء على استقلال أسكتلندا في وقت سابق من هذا العام، بحسب مساعد المخرج دايفي أندرسون، ففي ذلك الوقت كان لعبارة “أنا أسكتلندي” معناها المؤثر لدى الكثيرين.
لكن في رأيه أيضا، فإن مسألة الهوية الي تعبر عنها المسرحية تبقى هي في أي وقت وأي مكان. ولهذا فإن المسرحية تهدف إلى إظهار المعنى الحقيقي للوطنية بالنظر إلى الداخل، داخل الإنسان والوعي والمشاعر، ومن الخارج أيضا عندما نقف في المنطقة الحساسة بين انتمائين. فأمريكا، والكلام لأندرسون، صحيح أنها قوة كبيرة ومهيمنة في العالم، لكن تجربتها تبقى مثلها مثل التجارب التي أنتجت قبل قرون shortbread (نوع من البسكويت الأسكتلندي) في القرى والمرتفعات المعزولة، وهو ما يعبر عنه مؤسس الفرقة تشافكين ليكينز، بالقول إن العلاقة بين أسكتلندا وأمريكا بنيت على نوع من العقلانية والرومانسية منذ العام 1800، “لكننا دائما نعود إلى السؤال الذي طرحه الروائي والتر سكوت: “هل علينا أن نتطلع إلى الوراء أم إلى الأمام”؟.
لا تبدو القضية التي تطرحها مسرحية “أي شيء يعطي ضوءاً” مجرد قضية أسكتلندية أو أمريكية، فهي تخرج من محليتها لكي تضيء على مسألة شائكة تعقّد أو تسمم علاقات الشعوب واستقرار المجتمعات. فأزمة الهوية، التي كانت في السابق مسألة داخلية تتعلق بكل مجتمع على حدة، باتت اليوم مسألة عالمية متشابكة في ظل موجات الهجرة من كل مكان إلى كل مكان، أو على وجه أصبح من عوالم الانهيار القائم إلى محطات الاستقرار المأمول.. ومن أقدر من مثقفي وفناني الهامش على طرح المشكلة في جذورها وتمظهراتها.. هؤلاء الهامشيون الذي يجدون في مهرجان إدنبره الدولي محطة تدخلهم إلى المتن..
aXA6IDMuMTQ1LjEwMi4xOCA= جزيرة ام اند امز