علي قطعة كبيرة من الذهب صمم الفنان ايريك لندبرج ميدالية نوبل.. علي أحد وجهيها ألفريد نوبل الذي تحمل الجائزة اسمه
علي قطعة كبيرة من الذهب صمم الفنان ايريك لندبرج ميدالية نوبل.. علي أحد وجهيها ألفريد نوبل الذي تحمل الجائزة اسمه وعلي الوجه الآخر رمزان.. أحدهما إيزيس ربة الخصب والنماء لدي قدماء المصريين وعلي رأسها إكليل غار والرمز الآخر يمثل روح العلم.. وعلي حافة الميدالية كتبت عبارة لاتينية خالدة لشاعر قديم: «الذين جعلوا الحياة حلوة علي الأرض بأعمالهم وفنونهم الجميلة» وفي أسفل الميدالية نقش اسم «أحمد.ح. زويل».
وفي تواضع العلماء قال زويل في الحفل الذي أقيم له «حقا انها عبقرية العلم التي دفعت بالسباق مع الزمن شطرا إلي الأمام من بدايات رصد الزمن منذ ستة آلاف سنة مضت في أرض إيزيس ـ مصر ـ إلي نظام الفيمتو ـ ثانية الذي يكرم هذه الليلة»
ما الذي فعله زويل؟ هل هو الذي وصل بتفتيت الثانية إلي هذا الحد المسمي فيمتو ثانية؟ والجواب: لا. علي عكس ما يعتقد الكثيرون في ربيع عام 1872 كان هناك مجادلات حامية بين أحد أقطاب السكك الحديدية وقتذاك وبين عدد من أصدقائه حول: «هل حوافر الحصان تكون معلقة في الهواء علي سطح الأرض في لحظة من اللحظات التي يكون فيها الحصان راكضا؟ وراهن الرجل علي أن حوافر الحصان الأربعة إنما تكون معلقة في الهواء في بعض اللحظات ولجأوا إلي أحد المصورين لعمل كاميرا متطورة لالتقاط صور للحصان وهو يركض.
كانت الكاميرا المطورة تنغلق لحظة التقاط الصورة بسرعة واحد من ألف من الثانية وهي أعلي سرعة ممكنة وقتذاك وبينت الصور بوضوح تام أن الأحصنة في لحظات زمنية معينة تكون عالقة في الهواء.
وبعد قرن من الزمان قام زويل بنشر تجاربه لإيقاف صورة جزئيات المادة ـ بعد تصويرها ـ بكاميرا وهي في حركة تبلغ سرعتها عشرة ملايين البليون ـ مرة قدر الكاميرا التي كانت في يد مصور الحصان. هذا هو الانجاز العلمي المبهر.. والفتح العظيم لعالم عظيم في القرن العشرين وما يليه. وهذا ما لم يسبقه إليه أي عالم من العلماء المحدثين فقد تمكنوا من تصوير الذرة وهي ثابتة لا كما أراد زويل تصويرها في حالة الحركة بهدف دراستها والتحكم فيها وأصبح بذلك أول شاهد عيان للأحداث الكيميائية التي تقع في زمن يقدر بجزء من مليون بليون من الثانية واستحق لقب صانع العلم الجديد «الفيمتو كيميا» ذلك الذي يربط بين مقياس الزمن والكيمياء.
هذا الرجل الباهر أراد أن يري ـ تقريبا ـ ما لا يري أراد تقريبا أن يوقف الزمن.. أن يعرض صور الذرات المتحركة في زمنها الحقيقي الفائق السرعة ليراها هو في زمنه العادي تتمشي أمامه هادئة حتي يدرس السر.. وكان هذا بالنسبة لغيره شيئا من المستحيل.
هذا هو الخيال القافز.. العين التي تري.. اليد التي ترتفع عاليا لتطول النجوم ماذا يريد هذا العالم المتفوق من عمله هذا؟ يريد أن يرصد ميكانيكية اتمام التفاعلات الكيمائية بين الذرات المتحركة في زمنها الحقيقي ليفيد منها حياة الانسان عامة حيث إن خلايا الكائن الحي وجميع الأوامر والتعليمات التي تتلقاها داخل الجسم صادرة منها أو إليها تتم علي هيئة جزيئات كيميائية محددة التركيب تشبه المفردات اللغوية تفهمها وتتفاهم بها في دقة رياضية. فالكيمياء هي الغذاء خارج الجسم وهي وسيلة الحياة داخله وبهذا لا يعتبر زويل فاتحا لعلم «الفيمتو كيميا» وحده وإنما أيضا لعلم «الفيمتو بيولوجي» الخاص بالأحياء.
استخدم زويل أشعة الليزر في تطوير الكاميرا كما استخدم زمن «الفيمتو ثانية» مستفيدا من انجازات علماء قبله سبقوه في طريق العلم لكنه أراد أن يري ـ بعينه الداخلية المتوارثة عن الأجداد.. والتي رأت الروح ولم تكتف بالأجساد. أراد زويل أن يري فرأي وفي اعتقادي أن الرجل كان يحمل داخله السر الأبقي الذي وصله إلي ما وصل إليه وهو عشقه للحياة أولا.. هكذا تقول قصة حياته وتحركاته ـ وحين تحس الحياة حرارة هذا العشق تفتح قلبها للعشاق وتطلعهم علي أسرارها الخاصة تلك التي تخفيها عن عيون الآخرين.
في رسالته لنيل درجة الدكتوراه عام 1973 كتب هذه الكلمات كاستهلال لكل فصل من فصول الرسالة: «انني أري نفسي وكأنني طفل صغير يلهو علي شاطئ البحر.. فرحا بما يجده من حين لآخر من حبات حصي ملساء وأصداف جميلة بينما أمامي في جوف البحر الواسع تكمن الحقيقة.. (العلم) التي لم تكتشف بعد.
كنت طفلا جميلا.. ونهلت من خير مصر ومن نيلها صبيا حالما.. وأخذت أحلامك شابا وسافرت بها وغبت طويلا.. وها أنت تعود روحا ترفرف مع أرواح الشهداء والخالدين الذين أحبوا بلادهم وأحبوا الحياة فاستحقوا أن تبعثهم أحياء رغم الرحيل.
نقلاً عن " الأهرام "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة