إحدى المآسي التاريخية التي خلفتها ثقافة العقل الجمعي الرافض للتنوع وقبول الآخر، هي أصعب مأزق يواجهه العقل العربي
أحد أشرس مشكلات العقل العربي يكمن في انتظاره الحلول وليس البحث عنها، إذ تحتشد أمامه الاستفهامات على اختلافها، فيعجز عن الوصول إلى منطقة خارج صندوق الانتظار الذي حبس نفسه فيه، وهنا يسقط الأفراد في فخ حتمية الدخول إلى منطقة العقل الجمعي، وهي منطقة استحواذ سلبية تسيطر عليها حالة الغياب الكامل لفكرة التنوع، نتيجة ارتفاع أعداد النسخ المكرر الخاضعة لثقافة تفكير واحدة، تجعل منه مكانا خصبا للرتابة والتقليدية، ما يجعله عاجزا عن صنع ما هو متجاوز أو مُبتكر، وغير قادر على استيعاب ماهية الثابت والمتحول، والخلط في مفهومهما، وعاجزا عن فهم عبقرية التنوع، الأمر الذي لا يمكّنه من الوصول إلى إجابات مقنعة ومنطقية لاستفهاماته الصغيرة على الأقل.
وإصرار هذا العقل على تعريف كل الأشياء، وفق مفهوم رياضي بحت "1+1=2"، يجعله مدعاة للشفقة والسخرية، لأن الفكرة المختلفة على بساطتها، هي آخر ما يمكن أن يقترحها كحركة ذكية لكسر نمطية نسخه المكررة، ومأزقه التاريخي هذا.
ومن ذلك، ما يصدر من ردات فعل عنيفة يكرسها هذا النمط الأحادي الاتجاه والمضمون، والتي تأتي على شكل موجات هائلة من التشنج، يعجز معها عن استيعاب ما سيعقبها من أفعال مؤثرة على المجتمع والشركاء فيه، ويأتي التكفير في أعلى مراتب سقطات تلك الأحادية التي يتبناها العقل الجمعي، وهذه إحدى المآسي التاريخية التي خلفتها ثقافة العقل الجمعي الرافض للتنوع وقبول الآخر، وهي أصعب مأزق يواجهه العقل العربي من وجهة نظري، وكرستها الثقافات القبلية والتعصبات المذهبية الدينية منذ عصور في معظم المجتمعات والحضارات الإنسانية.
اليوم، تنعكس تبعات تلك النمطية التي يعيشها العقل العربي والإسلامي المجتر، دون تقليب تراثه ومراحل تاريخه، في استحضار مواقف تاريخية كمرحلة ظهور المعتزلة في أواخر العهد الأموي واشتداد الخلاف بينها وبين الأشاعرة في العهد العباسي على امتداده، ووصولا إلى العهود الوسيطة كمرحلة العهد الأندلسي الفكرية، والتي مثّلها فكريا الفيلسوف العربي "أبو الوليد ابن رشد"، وابن عربي، وابن طفيل، وغيرهم من الأعلام الفكرية، ووقف عليها سياسيا الخليفة يعقوب المنصور بالله، ومرحلة متأخرة، تتمثل في عصرنا الحالي المليء بالتقلبات والمتناقضات، هذا العصر الذي يكرر فيه العقل الإسلامي نفسه دون إبداع مؤثر يذكر، غير مستفيد من تلك المراحل التاريخية العصيبة الماضية، وما حدث فيها من عواصف وانتهاكات أحيانا كثيرة للفكر والعلوم وأهلها، ليستمر في الدائرة المغلقة نفسها التي حصر نفسه داخلها على مر القرون، وجعل من مضمونها مرجعية يجترها، لا حياد عما جاء فيها غثه وسمينه، غير منتبه إلى الاختلافات والمتغيرات الزمانية والمكانية، وما يفترض أن يوازيهما من الفكر والمعرفة، منكرا على الجديد إيجاد مكانه وزمانه، والتعبير عن نفسه كما يفترض أن يكون.
ومع نمطية كهذه، لن يطرأ على المجتمعات العربية والإسلامية أي تغيير يُذكر، وستبقى هذه الأمة تراوح في مكانها على مستوى الإنجاز الفكري والعلمي، وستبقى سيطرة الفكر المتطرف تطل برأسها من حين لآخر، كلما وجدت حواضن تستميت في تربيتها، لتدفع بالمجتمعات العربية والإسلامية إلى مآزق الإقصاء المقيتة، بتقريبه واعتماده الحلول السطحية لمعالجة قضاياه على اختلافها، وأهمها قضايا الفكر والعلوم التطبيقية.
*نقلا عن "الوطن أون لاين"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة