"خطوط جوية تحت الأرض" تهز الضمير الأميركي
رواية للكاتب بن هـ. وينتر تقدم مقاربة جديدة لقضية العنصرية القديمة/ الجديدة في الولايات المتحدة، على وقع أحداث صارخة.
يستحق التاريخ الأميركي نظرة جديدة. موازية، مختلفة، بديلة. نظرة لا بد منها لإعادة كتابة ـ أو قراءة ـ تاريخ أكبر تجربة إنساني/ دولتية في العالم منذ ما يزيد على 200 عام.
هذه الدعوة لا تصدر عن معاد للولايات المتحدة الأميركية، لكنها تأتي من لدن المجتمع الأميركي المعاصر، من قلب نخبته المثقفة، وهي ترحب بطريقة شبه إجماعية بالرواية الجديدة التي صدرت قبل أسابيع بعنوان "خطوط جوية تحت الأرض" للكاتب بن هـ. وينتر.
الرواية تقدم مقاربة جديدة لقضية العنصرية القديمة/ الجديدة في الولايات المتحدة، على وقع أحداث صارخة. أولها الصدامات العنصرية، وعمليات القتل وإطلاق النار في عدة ولايات، والتي كانت أجهزة الشرطة طرفا فيها.
وثانيها خطاب الكراهية الذي ظهر على نحو فاقع في الحملات الرئاسية، وخصوصا تلك الدعوات التي تسجل بصوت المرشح دونالد ترامب.
كان يمكن لرواية وينتر ألا تضيف جديدا، إذا ما أخذت في سياق السرديات الأميركية عن العبودية وهي كثيرة، ابتداء من “جذور” إليكس هيلي، وصولا إلى "12 عاما من العبودية" لسولمان نورثوب، وبينهما سلسلة طويلة من الأسماء مثل "كوخ العم طوم" لهيريت ستو، و"أكثر العيون زرقة" لتوني موريسون. لكن "خطوط جوية تحت الأرض"، ذهبت إلى مكان آخر، إلى أميركا المعاصرة لكي تسرد واقع حال العنصرية الحاضرة من خلال إسقاطات تاريخية، على النحو الذي يفعله أي مؤلف في العالم الثالث عندما يريد أن يكشف مستور الحاضر فيذهب إلى مفضوح الماضي..
هل هذا يعني أن رواية وينترز تتحدث عن عالم افتراضي؟ الإجابة: نعم ولا في نفس الوقت. فالعالم الافتراضي الذي يصيغه المؤلف، تتبدى في التداعيات التي ستواجهها الولايات المتحدة على الصعيد الدولي بسبب قضية العنصرية، بحسب ما يتوقعه المؤلف. أما العالم الحقيقي فهي تلك العنصرية الماثلة في تكوينات المجتمع والدولة، ليس في الذاكرة فحسب، وإنما في اليوميات.
بطل وينتر هو فيكتور، الصياد الأفريقي الأميركي، والذي يعتبره هبة لأميركا، لكنها ليس أميركا التي نعرفها أو التي نرغب في معرفتها. هي أميركا الموازية في الوقت المعاصر، حيث إن الكراهية الراسخة في معظم لحظات التاريخ الأميركي ـ العبودية ـ لا زالت حاضرة.
وتفترض الرواية أنه على الرغم من أن معظم الولايات قد تخلت عن العبودية، لكن هناك أربع ولايات متشددة ما زالت متشبثة بممارستها، في تباين واضح مع الحقائق الإنسانية التي كرسها أبراهام لنكولن، الذي كان داعية لإعتاق البشر في التاريخ الأميركي المعاصر، والذي ما زال ذكره يجري بين الناس على هذا الأساس.
فيكتور هو عبد أعطي حريته بشرط واحد: أن يطارد العبيد الذين هربوا من مزارع الجنوب حيث كانوا يعملون في ظروف شبه حيوانية، وبالتالي عليه أن يتتبع آثار "الخطوط الجوية" التي أقاموها تحت الأرض في طريق هروبهم إلى كندا أو أي من الدول الليبرالية الأخرى.
بن هـ. وينتر في روايته المدهشة، يقوم برسم العالم الذي لم يكن يوما، لكنه خرج من بين يديه بشكل مخيف. ذلك أن بقية الولايات الأميركية، تتواطأ بشكل أو آخر مع الولايات الأربعة المتشددة، التي ترفض الخضوع لحس المنطق والمسؤولية والمشاعر الإنسانية، ما يثير غضب بقية دول العالم المتحضر، فتلجأ إلى فرض حظر تجاري عليها، أي على الولايات المتحدة.
لكن الحياة، في الواقع وفي الرواية، تستمر، والقارئ يتابع بتوتر فيكتور في رحلته المتناقضة والغامضة أخلاقيا، وهو يقتفي أثر الفارين نحو الحرية، ولكنه في الوقت نفسه يعيش تحت العذاب النابع من ذاكرته وهو يسترجع سيرته المظلمة تحت مطحنة العبودية.
"خطوط جوية تحت الأرض" تذكرنا برواية روبرت هاريس "أرض الآباء" الصادرة عام 1992، والتي افترض فيها انتصار ألمانيا بالحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن الأهوال الناجمة عن حكم النازي، وخصوصا المحرقة، ما كانت لترى النور.
هذه المقارنة تظهر أن شخصيات رواية هنتر، لا ترى، أو لم تكن ترى الحقائق الصادمة التي كانت تعيشها، بنفس الطريقة التي يراها بها الناس بعد مرور عقود عليها.
وكما حدث في رواية "أرض الأجداد" فإن أحداث رواية "خطوط جوية…"، تدفع فيكتور خلال اقتفائه لأثر الهاربين، إلى اكتشافات مروعة عن حياته وحياة أقرانه من الأفارقة الأميركيين، لكن التغاضي عن تلك الاكتشافات يصبح أمرا مفروغا منه.
والمثير أن بعض الأوساط الثقافية الأميركية، في الصحافة والمعاهد، ناقشت الرواية من زاوية مؤلفها، لا من زاوية وقائعها أو افتراضاتها. فالكاتب بن هـ وينتر، هو أبيض البشرة، والسؤال الذي حاول الجميع الإجابة عنه، هو: هل من الملائم أن يطرح رجل أبيض مشكلة العبودية ويناقشها على هذا النحو؟ لكن المؤلف وحده هو الذي قدم الإجابة الصحيحة في مقابلاته الصحفية، إذ قال: إن قضية العبودية قد تسببت بالأذى لكل الولايات المتحدة ولكل الأميركيين، وبالتالي فإن مسؤولية سرد وقائعها هي من حق كل شخص.
لكن الرواية مع ذلك، أثارت جدلا إيجابيا، باعتبار أن الرواية تسلط الضوء على قضية داخلية أميركية بامتياز، تبدو أنها في الظاهر من القضايا المسكوت عنها على الرغم من التفجرات التي تثيرها في الشارع بشكل صدامات عنصرية خصوصا مع أجهزة الشرطة والأمن.
وبحسب مورين كوريجان في برنامج "الهواء النقي" على محطة NPR فإن الرواية تكشف بطريقة غير عادية "التاريخ البديل" للولايات المتحدة، وبأنها تدفع إلى "حدوث هزة في الوعي، مما يجعلنا نرى الكابوس الذي قد ينجم عن التغاضي عن الواقع القائم". ولاحظ الروائي كين كافوس في "فاينانشال تايمز" إن المؤلف وينتر راجع بعناية شديدة كل القيم التي تبدو خيالية في الواقع الأميركي، وهو يهجو بمكر منظومة القيم الأخلاقية. بينما أثنت "انترتينمنت ويكلي"، على حرفية وينتر في سرد تفاصيل من رحلة بطله فيكتور، كانت لتبدو عادية لو لم يكتبها على هذا النحو، وتعتبر "واشنطن بوست" أن من شأن الرواية أن تجعلنا نرى العالم والولايات المتحدة، بصورة جديدة، فهي سريعة، وذكية، وغاضبة، مع خيال يتمتع بحيوية هائلة.
تلك النقاشات، فضلا عن الرواية نفسها، وبمشاعر الخوف التي تثيرها، تعتبر تذكيرا صارخا للأميركيين ـ بحسب ما يقوله وينتر ـ بأنه إذا لم يكن بمقدورهم تجنب تكرار التجارب العنصرية، فإن عليهم أن يتعلموا من دروسها.
aXA6IDE4LjE5MS4xOTUuMTA1IA==
جزيرة ام اند امز