"وحي القلم" للرافعي.. البيان المسموع
"وحي القلم" من أروع ما أبدع الرافعي ذلك الأديب والكاتب اللامع الذي قدم باقة مشرقة من المقالات الاجتماعية والإنسانية
"إذا كان الناس يُعْجِزهم أن يسمعوني؛ فليسمعوا مني.."
مصطفى صادق الرافعي
"وحي القلم" عنوان شهير لثلاثية جمعت أهم وأبرز ما كتبه من مقالات أحد أعلام الأدب العربي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، هو مصطفى صادق الرافعي (1880 - 1937) الذي كان اسمه يقرن بنجوم الكتابة في عصره؛ طه حسين، عباس العقاد، أحمد أمين، أحمد حسن الزيات، محمد حسين هيكل، وغيرهم. "وحي القلم" واحد من الكتب الكلاسيكية، ونصوصنا النثرية في أدبنا العربي المعاصر، صدرت منه طبعة جديدة منقحة، مشروحة، عن الدار المصرية اللبنانية ضمن سلسلتها (كلاسيكيات)، يقول عنها الناشر في تقديمه للطبعة الجديدة "وحي القلم من أروع ما أبدع الرافعي وأجمل ما خطت أنامل ذلك الأديب اللامع والكاتب المبدع الذي قدم باقة أنيقة متألقة مشرقة من المقالات المستوحاة من الحياة الاجتماعية والإنسانية، تحمل في طياتها أدبًا بليغًا وآدابًا سامية وقيماً رفيعة تشرق في النفس بالحكمة والعفة والفضيلة، وتعكس نبض الحياة وصدى الواقع بما يحمله من فلسفة منطقية تغوص في المعاني وتتوغل في الأفكار".
نشأ "الرافعي" في بيت أدب وعلم ودين، وكانت أسرته تقدس الدين وتُجِلُّ اللغة العربية، وكانت هذه سمة رئيسية تميزت بها أسرة "الرافعية". وتعهده والده القاضي الشرعي بالتربية والتهذيب والتثقيف، ودرس الرافعي على أبيه التفسير والحديث، وحفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره.. وكان الرافعي يحضر مجالس الأدباء وعلماء الدين الذين كانوا يتوافدون على والده بين حين وآخر إبان توليه القضاء. وقرأ في صباه كتب الأدب والتاريخ والدين وعلوم القرآن والفقه، وذلك بعد أن منعه المرض الذي أصابه من مواصلة دراسته النظامية بصورة طبيعية، وكان من آثار هذا المرض إصابته بصمم دائم في أذنه، وبَكَم في فمه.
شهرة الرافعي البيانية الواسعة اكتسبها في المقام الأول من خلال مقالاته التي كان يكتبها وينشرها في الصحف والمجلات المعروفة آنذاك، مثل الهلال، والمقتطف، وكذلك مجلة الرسالة -أوسع المجلات الأدبية والثقافية انتشاراً في ذلك الحين- وجُمعت كلها بعد ذلك في هذا الكتاب الشهير بأجزائه الثلاثة "وحي القلم".
في مقالات "وحي القلم" تجلت براعة الرافعي البيانية والإنشائية، إذ وصل أسلوبه فيها إلى الذروة من براعة البيان وإحكام الإنشاء وتركيب الصورة؛ سعياً إلى الوصول لأسلوب عربي خالص في الكتابة الأدبية الإنشائية مؤسس على الأصول البيانية والجمالية العربية القديمة.
شهرة "الرافعي" وذيوع صيته بين أدباء عصره ومفكريه ترجع بالأساس إلى قدراته الكتابية كما ظهرت في نثره الفني البديع وكما سجله بالأخص في (وحي القلم)، الذي راد به اتجاهاً فنيا ومدرسة نثرية في الإنشاء الأدبي، كان هو زعيمها بلا جدال، فهو ممثل المدرسة القديمة المحافظة التي سار على دربه فيها العديد من كبار الكتاب والأدباء والمنشئين، ووقف "الرافعي" نثره الفني على القضايا الاجتماعية الإنسانية والدينية والفكرية، وقاد الرافعي التيار الأدبي الذي عرف خلال هذه الفترة باسم تيار (المحافظين) في مواجهة (المحدثين) وعلى رأسهم طه حسين والعقاد.
وخاض الرافعي معارك أدبية ونقدية عديدة مع كبار أعلام عصره، منها ما خاضها مع الدكتور طه حسين حول كتاب "في الشعر الجاهلي" المنشور 1926م، ورد عليه الرافعي بكتابه المهم (تحت راية القرآن)، ثم المعركة التي دارت بينهما حول (قضية القدماء والمحدثين)، وغيرها من القضايا الأدبية والدينية، وهناك أيضا المعارك المحتدمة التي خاضها مع عباس محمود العقاد، وكانت بينهما مساجلات عنيفة وقاسية سجل الرافعي جانبا منها في مقالات كتابه الشهير (على السفود) 1930م، وفيه نقد لاذع وعنيف لشعر العقاد.
رحلة الرافعي مع إحياء البيان العربي لم تقتصر على ما كتبه في "وحي القلم" فقط، بل امتدت لتشمل سلسلة كتبه النثرية التي سجل فيها خواطره ورؤاه في الحب والعشق. إذ أخرج الرافعي تباعا (رسائل الأحزان)، و(السحاب الأحمر)، و(أوراق الورد) يسجل فيها جميعاً تجربة الحب الإنسانية العميقة كما خَبَرها وعاشها هو، ويعرض من خلال أسلوبه البياني العالي مفهومه للحب وفلسفته في العشق، وكان الحب لديه ممزوجا بالشعر والفلسفة والكبرياء، وهي دائرة استرعت انتباه الكثيرين من دارسي أدبه، ودعتهم للإفاضة في هذا الجانب بكثير من التحليل والتقييم.
توزع إبداع الرافعي ما بين البحث العلمي العميق المصوغ بلغة أدبية رفيعة -خاصة في كتاباته الإسلامية- والدراسة الأدبية النقدية، والمقالة الاجتماعية أو الفلسفية، والقصة التي تهتم بالجمال اللغوي وبراعة الصياغة أكثر من اهتمامها بالبناء القصصي، والخاطرة الوجدانية أو التأملية المصوغة بلغة نثرية ذات طابع شعري، والرسالة العاطفية، بالإضافة إلى إبداعه الشعري الذي تضمه دواوينه الأربعة، وصفحات المجلات والصحف.
أسلوب الرافعي أسلوب شديد التفرد يجمع بين رصانة الصياغة الكلاسيكية ورحابة الخيال الطليق، ولذلك يعده كثير من النقاد من رواد ما عرف باسم "الشعر المنثور"، وخاصة في كتبه التي تعتمد على مجموعة من الخواطر الشعرية رفيعة الصياغة، لعل أشهرها ثلاثيته "حديث القمر"، و"أوراق الورد"، و"السحاب الأحمر".
aXA6IDE4LjIxNi40Mi4yMjUg جزيرة ام اند امز