إن أقصي ما يمكن أن نحصله في لسان غيرنا أن نستخرج منه المعلومات بصفته وعاء، وهو وعاء مجلوب نشأ وتطور ضمن تقاليد حضارات وافدة
لماذا يلزم تعليم المعارف جميعا ـ ومنها العلوم ـ بالعربية؟ قد نقول إن هذا هو الأمر الطبيعي الذي لايحتاج إلي سؤال، ولانزيد علي ذلك، وقد نتوسع فنتطرق إلي السؤال التالي: أليست قوي النفس البشرية كلها متعاضدة متكافئة في تحصيل المعرفة؟ ألا يكون هذا التعاضد أقوي كلما كان صادرا من داخل النفس، وليس مجلوبا من الخارج؟ وإذا صح هذا فكيف يتصور العقل معزولا عن اللسان؟. وقد نتوسع أكثر فنسأل: لماذا نعلم المعارف أصلا؟ ألسنا نقوم بذلك لننتقل بالأفراد ـ ومن ثم بالأمة ـ من دائرة الجهل إلي دائرة العلم، ومن دائرة التحصيل «المعلوماتي» إلي دائرة الانتاج المعرفي؟ وإذن فكيف يتصور الوصول إلي تلك الدرجة الرفيعة من المعرفة، التي نصل فيها من مرحلة اجترار المعرفة إلي مرحلة إنتاج المعرفة، إذا كنا سنستمر في التعليم بغير لساننا، وهو لسان ـ مهما قيل من تعلمنا إياه، وإجادتنا أياه ـ هو لسان غيرنا، أي أنه ليس ترجمان وجداننا وخيالنا؟
إن أقصي ما يمكن أن نحصله في لسان غيرنا أن نستخرج منه المعلومات بصفته وعاء، وهو وعاء مجلوب نشأ وتطور ضمن تقاليد حضارات وافدة، وضمن فلسفات نضجت خارج سياقنا الحضاري. أما الابتكار فهو محتاج يقينا إلي لغة أصيلة، والدليل علي ذلك هذه المبتكرات الوافدة علينا ذاتها، فهي تتم في لغاتها الأم دون غيرها.
ولن أنشغل هنا كثيرا بالأسباب التاريخية التي دعتنا إلي التحول من تعليم العلوم بالعربية في أول النهضة إلي تعليمها بغير العربية، وأراها جميعا أسبابا تفتقر إلي الإقناع، وتجافي «العلمية»، والمنهجية، وأقوي مايمكن أن يقال في الدفاع عن تعليم العلوم بغير العربية ما أسلفته عن أن العلم لا وطن له، ومن ثم فلا لغة له، لكن هذا لايحتم أن تكون لغته التي لا وطن لها، هي بالضرورة غير العربية. وسند آخر يقوي أصحاب القول بهذا، وهو أنهم يركنون إلي الأمر الواقع، وبقاء الحال عي ماهو عليه، ذلك أن التغيير محتاج إلي همم، وإلي وسائل وإجراءات، وزحزحة أمر كرس بطول الزمن، وبالأمر الواقع، يقع عند البعض في حدود المغامرة، والمغامرة تحتاج إلي قرارات جريئة، وتحمل خسائر محتملة، لاتقوي عليها عادة عصور الضعف والتخلف، تلك العصور التي تركن دائما إلي عدم التغيير، والركون إلي ما هو مستتب، وتفادي المراجعة والفحص والنقد لعدم القدرة عليها، لكن تدني المستوي العلمي ماثل أمام أعين الجميع، والتفكير في أسبابه فرض واجب، وقد ننتهي إذا فعلنا ذلك إلي أنه قد يكون السبب ـ أو واحد من الأسباب في أقل تقدير ـ الانفصام بين تلقي المعرفة ولسان الأمة، فكيف يظل ذلك البحث مسكوتا عنه؟
وأقترح أن يكون البدء مائدة مستديرة يعقدها المجمع، يتناقش فيها أعضاؤه ـ أو يتناظرون ـ مقدمين آراءهم في موضوع تعليم العلوم بالعربية، وعارضين الحلول المثلي في هذه المسألة حسبما يرون، وحين تفضي هذه المناقشات، أو المناظرات، إلي اتجاهات محددة واضحة في الموضوع، تدعي مؤسسات الدولة المعنية الأخري إلي الحوار، فعلي سبيل المثال يمكن أن يدعي في مرحلة من المراحل: المعهد العلمي المصري، والمجلس القومي للترجمة، وكليات العلوم والهندسة والطب والحاسبات في الجامعات، ليدلي كل بدلوه في الموضوع، وفي تقديم رؤيته في جعل العربية لغة تعليم العلم في كل مراحل التعليم بما في ذلك التعليم الجامعي، وترسيخ الاقتناع لأن ذلك هو سبيل التقديم العلمي والحضاري في المنطقة. هنا لابد من تفعيل دور المجمع العلمي الذي يبدو لعامة المثقفين يعمل في برج عاجي، ولابد كذلك من توسيع مجال عمل المجلس القومي للترجمة ليشمل ترجمة العلوم دون الاقتصار علي الانسانيات التي تبدو غالبة علي عمل حتي الآن، وهو يحمل اسم «القومي»! وبالمثل لابد من إذكاء روح العربية لدي أساتذة العلوم في شتي الفروع، وإزاحة الفكرة الممجوجة التي لاتري ضيرا في أن يبلغ أستاذ عربي ذروة السنام الأكاديمي، دون حاجة إلي أن يكون له باع معترف به في لغته القومية، إن المجلس القومي للترجمة يستطيع أن يكون دارا للحكمة في العصر الحديث، وأن يقوم بترجمات واسعة في مجال العلوم إلي اللغة العربية تتيح فيها من المستحدثات العلمية، ومن الاختراعات والمصطلحات، يلبي في حاجات العلم ما تلبيه الفرنسية، أو الأسبانية، لأهلها. وخلاصة القول هنا إنه إذا كان ثمة إستعصاء علي تعليم العلم بالعربية فهو ليس في العربية، وإنما هو في أهلها.
وحين تكشف هذه المؤسسات عن نتائج أعمالها، وتنشر أبحاثها، وتقدم توصياتها، يمكن أن تنضم إليها مؤسسات أخري عاملة في مجال البحث العلمي، كالمركز القومي للبحوث ـ ومن ثم العمل ـ في الموضوع: وقد يكون ضمن ما يطرح في مناقشات هؤلاء جميعا هذا السؤال الذي أراه جوهريا وهو: إذا كنا درجنا منذ فترة طويلة علي تعليم العلم بلغة ـ أو لغات ـ الغير، مضحين بأمر عزيز جدا هو عدم إدخال لغتنا إلي مجال العمل، فبقيت مهمة خارجية، مما أسهم في ضعفها وتخلفها عن أن تكون لغة علمية عصرية، ومع ذلك بقينا كأمة متخلفين علميا، ولم يحقق لنا تدريس العلوم بغير العربية أي تقدم في هذا الميدان ـ ألا يجدر بنا والحالة هذه أن نعترف بأن ثمة أسبابا أخري وراء هذا التخلف، وأن نبدأ البحث فورا في تقصي تلك الأسباب. لابد من الخروج من دائرة البحث النظري إلي دائرة الاجراءات العلمية، وفيها ينبغي الوصول إلي قرارات نوعية في شأن تعليم العلوم بالعربية في المستوي الجامعي الذي هو مربط الفرس في اقتراحي هذا، وهذه القرارات النوعية تتضمن تخطيطا للوائح العمل، ورسم المناهج، وما إلي ذلك، ومن اللازم أن يتم ذلك في تؤدة وحذر، وأن يوكل إلي أهله القادرين عليه، المتجردين من كل غرض سوي غرض خدمة المعرفة، وخدمة الوطن. > نائب رئيس مجمع اللغة العربية.
*- نفلاً عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة