وسرعان ما تبيَّن أن «الربيع العربي» انقلب إلى «شتاء إسلامي» في غالبية دول المنطقة، بحيث غطى اللون الأخضر أعلام مصر وتونس
في زحمة البحث عن حلول مستعجلة لحرب اليمن ومعارك السلطة في ليبيا، وضِعَت أزمة رئاسة الجمهورية اللبنانية في مخزن التجميد بانتظار فرصة مناسبة لاعادة إحيائها.
وعلى رغم المحاولات المتكررة التي طرحها رئيس المجلس نبيه بري، في جلسات بلغت 33 جلسة يوم الأربعاء الماضي، فان التحرك السياسي الجدّي لن يبدأ قبل الشهر الثاني أو الثالث من عام 2016. وهو تحرك يقتضي نضوج عملية الانتخاب على نارَيْن، إقليمية ودولية، بحيث تصبح الكتل النيابية جاهزة لحلحلة العقد.
وترى مصادر الأمم المتحدة أن هذا الوضع لن يصل إلى مرحلة النضوج قبل مطلع شهر آذار (مارس)، أي عندما تجف مصادر تمويل تنظيم «داعش»، ويضطر أبو بكر البغدادي إلى مضاعفة «الجزية» كتعويض عن حرمانه من إيرادات النفط.
وبما أن الحصيلة اليومية التي كان يجمعها «داعش» من النفط والضرائب تتعدى سبعة ملايين دولار، فان تجفيف هذه المصادر أصبح مطلباً استراتيجياً ملحاً لدى الدول المهتمة بتفكيك دعائم الدولة المصطَنَعة. وهذا ما أعلنه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لدى استقباله مساعد وزير الخزانة الأميركي دانييل غلاسر، المسؤول عن مكافحة الإرهاب الذي ذكر عقب اجتماعه بالسيسي أن مهمته تقتضي عزل «داعش» عن النظام المالي العالمي، ومنع هذا التنظيم الإرهابي الوحشي من استخدام ثرواته لإغراء المئات من المجرمين والمتطرفين.
أما على الصعيد السياسي، فقد أجمع زعماء العالم الصناعي خلال اجتماعهم في باريس على القول إن استقرار الشرق الأوسط وحده يمثل العامل المؤثر لتجميد الهجرات الجماعية لألوف اللاجئين إلى أوروبا. وعليه قرروا مساندة كل إجراء يوقف النزف الذي أرهق المنطقة بحروب أهلية مدة خمس سنوات. وهذا ما دفع بالسعودية إلى المساهمة في هذا المجال، من طريق تشكيل تحالف عسكري إسلامي يضم 34 دولة.
الأسبوع الماضي سجل مرور خمس سنوات على ظهور «الربيع العربي» الذي بدَّل وجه الشرق الأوسط، وأعاد العالم العربي إلى حقبة الفوضى والتطرف والحروب الأهلية. علماً أن هذه الموجة بدأت في تونس منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2010 ونجحت في إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي. ومن ثم وصلت تلك الموجة الجارفة إلى مصر مقتلعة الرئيس حسني مبارك، بعد حكم استمر ثلاثة عقود. وكان من السهل بعد ذلك وصول تلك الموجة إلى ليبيا واليمن وسورية.
المحللون أرجعوا أسباب تلك الانتفاضة إلى انعدام فرص العمل أمام الشبان، وإلى ولادة جيل أربكه الازدياد المتسارع في عدد السكان. ففي بداية الستينات بلغ عدد سكان العالم العربي مئة مليون نسمة. وبعد مرور نصف قرن تقريباً بلغ العدد 400 مليون، أي عشية اندلاع «الربيع العربي».
وسرعان ما تبيَّن أن «الربيع العربي» انقلب إلى «شتاء إسلامي» في غالبية دول المنطقة، بحيث غطى اللون الأخضر أعلام مصر وتونس. كذلك انهارت مؤسسات عدة دول مثل ليبيا وسورية واليمن والعراق ولبنان والصومال.
في صيف 2014 تغير «الربيع العربي» و»الشتاء الإسلامي» إلى «صيف داعشي» عقب سيطرة محاربي هذا التنظيم على شمال العراق وشرق سورية، رافعين الراية السوداء.
لبنان، خلال السنتين الماضيتين، لم يتأثر بهذه المتغيرات الإقليمية، ما عدا الجانب الأمني الذي زعزعته حوادث العنف من عرسال إلى الضاحية الجنوبية. كذلك طاول التهديد مؤسسة رئاسة الجمهورية التي عانت من الفراغ المستمر. وهو فراغ تعددت الاستنتاجات التي رافقت إيقاعه المضطرب. بينهم مَنْ عزا هذا الفراغ إلى انحسار نفوذ الغرب في لبنان بحيث انتقلت قوة التدخل السياسي من الولايات المتحدة وفرنسا والفاتيكان... إلى طهران التي يمثلها «حزب الله».
إضافة إلى هذا التحول، صدرت عن مرجعيات مسيحية أقاويل تغلـِّب فكرة وجود نيّة مبيتة لانتزاع منصب رئاسة الجمهورية من الموارنة، مثلما انتزعت صلاحيات الرئيس في اتفاق الطائف. وتدعم هذه المرجعيات موقفها السلبي بالإشارة إلى المشروع الانتخابي الذي طرحه العماد ميشال عون - أي الانتخاب المباشر من الشعب - كوسيلة سريعة لإحداث هذا التغيير. خصوصاً أن بكركي ساهمت في عملية تعقيد هذا الموضوع عندما وافقت على حصر عدد المرشحين بأربعة فقط. وكان المعيار الذي استندت إليه يفترض إعطاء الأفضلية لمَنْ يحظى بأكثرية نيابية. لهذا توقع رئيس تيار «المَرَدَة» النائب سليمان فرنجية من حليفه العماد ميشال عون المساندة والدعم، كونهما ينتميان إلى خط سياسي واحد.
ولكن هذا الخط لا يصب في معين واحد، بدليل أن عون يستقوي بطهران في حين يستقوي فرنجية بدمشق. ومن أجل استكشاف صلابة هاتين المرجعيتَيْن كتبت صحف لبنانية أن فرنجية زار دمشق بغية التعرف إلى موقف بشار الأسد تجاه الخطوة المشتركة التي اتخذها مع سعد الحريري. وتوقعت هذه الصحف أن يكون فرنجية قد سمع جواباً منسجماً مع الكلام الذي نقله الأمير طلال أرسلان على لسان الأسد قبل فترة قصيرة. وخلاصته أن سورية الأسد جيَّرت كل المسؤوليات السياسية في لبنان إلى «حزب الله» عقب انسحابها العسكري. وبقي هذا القرار ساري المفعول على مختلف الأصعدة، بما فيها صعيد الرئاسة.
وقد يكون هذا الموقف المتحفظ الذي أعلنه الأسد أمام أرسلان صحيحاً من الناحية المبدئية. ولكن الحقيقة التي أخفاها، هي أن قراراته السياسية انتزعتها منه القوى المسؤولة عن حمايته، وحماية نظامه. أي القوى الروسية التي غرقت في مستنقع الحرب والقوى الإيرانية التي تجمع حالياً أسلحتها استعداداً للانكفاء عن الجبهة ومقاتلو «حزب الله» الذين فقدوا عدداً كبيراً من المحازبين في المنطقة الحدودية مع لبنان.
ومن المؤكد أن «حزب الله» لا يمانع إطلاقاً في تأييد سليمان فرنجية الذي يختلف عن مرشحه ميشال عون في موقفه المعادي لإسرائيل. كما يختلف أيضاً عن موقف الدكتور سمير جعجع و»الكتائب» اللبنانية في هذه النقطة بالذات. والمعروف أن مجاهرة جدّه بهذا العداء أمام وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر في محادثات رياق سببت له الكثير من المتاعب الأمنية، داخلياً وخارجياً.
انطلاقاً من هذه الفرضية، يكون فرنجية أقرب إلى «حزب الله» في خطه السياسي، من المرشحين الثلاثة. ولو أن نواب الحزب يفضلون عون على أي مرشح آخر لسبب وجيه خلاصته أن رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» يستقطب أكبر كمية من النواب المنتشرين في كل المناطق اللبنانية. في حين أن نفوذ فرنجية لا يتعدى قضاء زغرتا وقضاء الكورة وجزءاً من قضاء عكار.
المتتبعون لمعارك الرئاسة في لبنان لا يقيسون أحجام الرجال بهذه المسطرة، وإلا لكان الرئيس شارل حلو والرئيس الياس سركيس سقطا في امتحان الشعبية. ومع هذا كله، فان مواصفات الرئاسة تختلف عن مواصفات رئيس المجلس أو رئيس الحكومة، كونها تتعلق بشؤون التنظيم ووحدة البلاد، وأهمية امتلاك شخصية قيادية رائدة.
المهم أن فرنجية سقط في الامتحان الأول لأنه استعجل عملية حرق المراحل، وقفز إلى آخر مرحلة برفقة رئيس حكومة ينتمي إلى تيار 14 آذار. وكان من المنطقي أن يتعرض لانتقاد حلفائه لأنه لم يبلغهم بطبيعة هذا التحول... أو أنه افترض تنحي ميشال عون بعد سلسلة جلسات فاشلة. ويبدو أن كل هذه الأخطاء الشكلية زادت من مخاوف المشككين بسلامة العملية الانتخابية التي راوحت مكانها مدة سنة ونصف السنة. وهذا ما دفع فريقاً من المسيحيين إلى اتهام «حزب الله» بتأخير تنفيذ انتخابات الرئاسة على أمل أن تتغير الظروف الداخلية والخارجية، لصالح رئيس غير ماروني.
أما السيناريو الذي ابتُكِر لهذه المرحلة، فيُصار إلى تطبيقه خلال الربيع المقبل، أي عندما تشعر قيادة «داعش» بأنها معرضة للسقوط والهزيمة أمام هجمات خصومها الكثر. وفي هذه الحال، تضطر إلى فتح ثغرة في لبنان تعوض بها عن الخسارة المتوقعة.
شعبة المعلومات في الجيش اللبناني لا تتوقع حدوث هذا السيناريو، لأن جميع المنتمين إلى «داعش»، والمنظمات الراديكالية الأخرى، يخضعون لمراقبة صارمة في مختلف المناطق اللبنانية. مع أن مثل هذه التطمينات ذُكِرَت قبل أحداث عرسال، ثم جاءت الوقائع لتنقضها. والكلام ذاته ينسحب على الأحداث الدامية التي وقعت في جرود «سير الضنيّة» مطلع العقد الماضي. ومثل هذا التذكير يُقال من باب الحيطة، لأن لبنان الهادئ والمستقر نسبياً قد يتعرض لهزة أمنية من خلايا نائمة تنتظر كلمة السر من البغدادي أو من سواه ممن أتقنوا الفتن.
ومثل هذا التطور الذي نتمنى ألا يحصل، قد يضع «حزب الله» أمام امتحان وطني آخر ضد جماعات أصولية داخلية مسلحة.
أما في حال فشل تنظيم «داعش» في ارتكاب أعمال مخلة بالأمن اللبناني، فان عملية انتخاب الرئيس الجديد تكون رهينة المتغيرات في الشرق الأوسط. كما هي رهينة الوضع الإيراني في العراق وسورية واليمن. ومعنى هذا أن تذليل العقبات الخارجية هو المدخل لتسهيل انتخاب رئيس لبناني قد لا يكون من الأربعة المعروفين!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة