الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان مصمما على إخراج أمريكا من حروبها وأزماتها
كنا بعد الظهيرة بتوقيت القاهرة يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ عندما اجتمع مجموعة من الزملاء في مكتب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وساعتها اندفع زميل آخر زاعقا بأن هناك أمرا جللا يجري في الولايات المتحدة وفي مدينة نيويورك تحديدا.
تركنا ما بيدنا وتوجهنا نحو قناة CNN التي كنا نلجأ إليها لكي نعرف أخبار الدنيا، وكانت الصاعقة التي باتت معروفة في كثير من المشاهد والأفلام بأن الأمر لم يعد تفجير برج واحد وإنما شاهدنا رأي العين تفجير البرج الثاني.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان مصمما على إخراج أمريكا من حروبها وأزماتها، وبشكل ما فإن الرجل الذي جاء من اليمين السياسي التقى مع ما كان يفكر فيه سلفة باراك أوباما القادم من اليسار السياسي الأمريكي
لم تمضِ ساعات إلا باتت قصة ما جرى معروفة، وكان هناك إجماع بين خبراء المركز أن هناك عملا إرهابيا مفزعا، ولم يحتج الأمر فترة طويلة لكي يقرر خبراء الولايات المتحدة أنه لا يوجد هناك خيار آخر لدى الرئيس جورج بوش الابن إلا أن يشن حربا على أفغانستان.
كان التساؤل مشروعا عما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تعيش "عقدة فيتنام" أم أن دخولها في "حرب الخليج" ١٩٩١ قد فك هذه العقدة، وأن "اللحظة الأمريكية" في التاريخ العالمي قد جاءت عندما انتهت الحرب الباردة، وباتت الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في الكون.
مضت سنوات طويلة بعد هذه اللحظة من التأمل الاستراتيجي، وفي ديسمبر ٢٠١٨ كتبت في صحيفة الشرق الأوسط الغراء مقالا عن "الحرب المنسية"، متسائلا عن الثمن الفادح للحرب الأفغانية التي دخلت فيها أمريكا عامها السابع عشر.
وبعد تسعة عشر عاما فقد أكثر من 2300 من الأفراد العسكريين الأمريكيين حياتهم هناك، وأكثر من 20000 آخرين أصيبوا بجروح. قُتل أو جرح ما لا يقل عن نصف مليون أفغاني من القوات الحكومية ومقاتلي طالبان والمدنيين. وأنفقت واشنطن ما يقرب من 1 تريليون دولار على الحرب.
وعلى الرغم من أن زعيم القاعدة أسامة بن لادن قد قتل، ولم تنفذ القاعدة هجوما كبيرا على الولايات المتحدة من قبل جماعة إرهابية مقرها في أفغانستان منذ 11-9، فإن الولايات المتحدة لم تتمكن من إنهاء العنف أو وقف الحرب، ولم تمكن السلطات الأفغانية من الحكم بحرية، ولا باتت الحكومة الأفغانية قادرة على البقاء على قيد الحياة دون دعم عسكري أمريكي.
بشكل ما فإن الذين أشاروا إلى أهمية التعلم الأمريكي من التجربة الأمريكية في فيتنام كانوا على حق، عندما كانت واشنطن على شفا اتخاذ القرار بالذهاب إلى أفغانستان.
والحقيقة هي أنه بعد مضي ١٩ عاما على بداية الحرب وسقوط كابول فإن الصورة الذهنية الأمريكية عن نهاية الحرب لا يمكن فصلها عن ذلك المشهد للأحداث الفظيعة التي وقعت عام 1975، عندما وصل الفيتناميون الشماليون وجبهة التحرير الوطني (NLF) إلى سايجون، وكان آخر الأمريكيين، إلى جانب بعض الحلفاء الفيتناميين الجنوبيين، يناضلون بشكل محموم للهروب بطائرة هليكوبتر.
أصبحت فيتنام تلح على الذاكرة الأمريكية وباتت المشابهة بين فيتنام وأفغانستان ذات مصداقية، ويعد كلاهما من "مقابر الإمبراطوريات" المشهورة التي حاولت إخضاعهما بالقوة المسلحة والسياسة والدبلوماسية. كانت الحروب الأمريكية في البلدين منبثقة عن صراعات عالمية أكبر، كانت فيتنام واجهة للحرب الباردة، وأفغانستان كانت جبهة في "الحرب على الإرهاب". في الحالتين اتخذت قوات المتمردين المحلية التي قاتلت الولايات المتحدة وجهة نظر طويلة، عازمة على الانتظار لعدو قوتهم العظمى. قال أحد المتمردين الأفغان لمراسل أمريكي "لديك الساعات، لدينا الوقت".
كان ذلك هو ما نقله "جورج هيرنج" في مقاله المنشور في دورية "الشؤون الخارجية" في ١٥ أبريل ٢٠١٩، وكان هو الذي مضى في المشابهة، حيث تفاوضت الولايات المتحدة وفيتنام الشمالية على التسوية السلمية لعام 1973 مباشرة مع بعضها، متجاهلة حلفاء كل منهما، وحكومة فيتنام الجنوبية والجبهة الوطنية الليبرالية.
وفي أفغانستان تتفاوض الولايات المتحدة الآن بشكل مباشر مع طالبان، متجاهلة حليفها حكومة الرئيس أشرف غني. ويسيطر حليف الولايات المتحدة في كابول، مثله مثل حليفها السابق في جنوب فيتنام، على جزء فقط من أراضيها، ويمارس زعامة ضعيفة، ويعاني من خلل سياسي وحكومي، فضلا عن الفساد المتفشي.
يعتمد الجيش الأفغاني، مثل نظيره الفيتنامي الجنوبي، على المساعدات والدعم المالي للولايات المتحدة. وكما هو الحال في فيتنام، فإن توقيت انسحاب القوات الأمريكية هو عنصر أساسي في أي اتفاق.
الآن، يسعى المسؤولون الأمريكيون إلى "فترة لائقة"، في العبارة التي صاغها هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، بين رحيل الولايات المتحدة وسقوط حكومتها المتحالفة معها.
الآن نستطيع القول إنه وقت كتابة ونشر مقال "الحرب المنسية"، فإن الحقيقة كانت أن الحرب لم تكن منسية على الإطلاق؛ لأن الولايات المتحدة كانت نشطة دبلوماسيا للبحث عن حل، حيث وجدت نافذة للحديث مع طالبان، وكان "زلماي خليل زادة" الدبلوماسي الأمريكي صاحب الأصول الأفغانية جاهزا للتعامل بشكل أكثر واقعية مع المنظمة الأفغانية التي كانت حاكمة لأفغانستان عندما بدأت الحرب، سواء كانت ساعة الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي، أو الهجوم الأمريكي على أفغانستان.
الواقعية هنا نبعت من مصادر الفشل الأمريكي، وأولها أن بناء حكومة أفغانية قادرة على بناء الدولة والدفاع عنها لم ينجح، ولم يكن ذلك لقلة في الإنفاق، أو عجزا في الحصول على تأييد دولي من حلف الأطلسي على سبيل المثال.
وثانيها لم تفلح الولايات المتحدة في إقناع باكستان باتخاذ مواقف تراها الولايات المتحدة ضرورية، وتراها باكستان جزءا من الصراع التاريخي بين الهند وباكستان.
وثالثها أن القادة الأمريكيين لم يفلحوا في تحقيق استمرارية في التفكير الاستراتيجي الأمريكي التي تضع أفغانستان في دائرة الحرب العالمية على الإرهاب وضرورة الانتصار عليه حتى ولو كانت الولايات المتحدة لم تحدث لديها هجمات مماثلة لتلك التي جرت قبل عقدين، تقريبا.
ورابعها أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان مصمما على إخراج أمريكا من حروبها وأزماتها، وبشكل ما فإن الرجل الذي جاء من اليمين السياسي التقى مع ما كان يفكر فيه سلفة باراك أوباما القادم من اليسار السياسي الأمريكي.
وفقا لمصادر مختلفة فإن تسع جولات من المفاوضات جرت بين طالبان وواشنطن لإنهاء الحرب التي "لا نهاية لها"، التي كانت أكثر طولا من كل الحروب التي خاضتها أمريكا، بما فيها الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦٠-١٨٦٥). وما كانت تحتاجه إدارة ترامب هو "فترة لائقة" تستطيع أن تسجل فيها أنها حققت انتصارا بشكل ما، وجرى الاتفاق على أن تكون هذه الفترة تتوقف فيها طالبان عن الهجوم على الجنود الأمريكيين، مع تقليل العنف بشكل عام.
بعدها تنسحب القوات الأمريكية، وتتوقف طالبان عن منح قواعد للمنظمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش، بل تطردهم من أراضيها، وتبدأ المفاوضات بينها وبين الحكومة الأفغانية. والاتفاق هكذا فيه الكثير من الثقوب، فطالبان لم تكن تعترف بالحكومة الأفغانية الشرعية والمنتخبة، كما أنه ليس معروفا كيف ستكون هناك ضمانات لتكف المنظمة الإرهابية عن مساندة الإرهابيين، وهل يمكن أن تعود القوات الأمريكية إلى أفغانستان مرة أخرى بعد مغادرتها إلى الوطن مرة أخرى؟ الأسئلة كثيرة، وربما سوف يحسمها كيف يدير الرئيس الأمريكي معركة الانتخابات الرئاسية، وهل سوف يريد دخول التاريخ على أنه الرجل الذي لم يقبل الهزيمة في أفغانستان، أو أنه الرجل الذي أعاد الجنود الأمريكيين إلى الوطن؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة