منذ اللحظات الأولى لفكرة القائمة الموحدة، كنت ضمن جموع الرافضين، لاعتبارات كثيرة، أبرزها عصف هذه الفكرة بكل معانى التعددية والتنافسية
أطلق مقتل سمير القنطار في غارة إسرائيلية قرب دمشق، موجة عاتية من الاتهام والتهديد والتخوين بحق كل من قرأ في الحدث وفي الرجل ما يختلف عمّا صورته الآلة الحزبية التي انتسب إليها قبل مصرعه.
موجة الاتهامات على مواقع التواصل الاجتماعي طاولت أشخاصاً عاشوا مع القنطار في سجنه الإسرائيلي أعواماً طوالاً (مثل الأسير السابق أحمد إسماعيل) وقدموا شهادتهم في زميلهم، وذكروا أنه وجه رسائل إلى الرئيس الإسرائيلي عيزر وايزمن يطلب فيها الإفراج عنه وأنه أيد اتفاق أوسلو وقدم العزاء برئيس الوزراء المقتول اسحق رابين. تختلف هذه الصورة، رغم صدورها عمّن تفهّم ظروف السجن، عن تلك التي تريدها الدعاية الحزبية للقنطار كبطل استقى ثبات مواقفه من ثبات القوى التي التحق بها بعد الإفراج عنه.
الإدانة العنيفة لأي شهادة لا تلتزم بالنص الذي حددته الجماعة، تعيد الانتباه إلى حالة الإنكار العميق الذي ما زال المتحدثون الرسميون والمتطوعون باسم «أولياء الدم» يعانون منه. إنكار للطبيعة البشرية في المقام الأول، المتمثلة في أن سمير القنطار قام بخيارات سياسية ثم عاد عنها وأن مشاعر ومصالح عادية حركته وقادته مثلما يتحرك ويُقاد كل بني البشر. يتصاعد الإنكار هذا لينفي عن قادة الجماعة أي شطط أو خطأ قد يقعون فيه مضيفة صفات فوق طبيعية على كل ما يصدر عنهم. فالحروب التي تخوضها الجماعة المعصومة تنتهي بانتصارات إلهية، والمهمات التي تنشغل بها تُمهد لأحداث كبرى لا تقل خطراً عن نهاية الزمان وظهور المهدي المنتظر وفي هذا تجاوز للاعتقاد الديني وتماس مع عُصاب جماعي.
بيد أن إخراج قيادة الحزب أو الطائفة من حيز الفعل البشري وإدغام إرادتها بإرادة إلهية غيبية على نحو يحول دون مساءلتها عن أعمالها مثلما يُسأل البشر الفانون، يعكس رفض الجماعة الاندراج في أي بنية تتشارك فيها بموقع مساو لبقية الجماعات.
ولا يقف الأمر هنا. ذلك أن كل غلو يترافق مع شعور بنقص ما. الحملة الشرسة على أحمد إسماعيل، على سبيل المثال، لا تعلن البرم برأي مختلف فحسب، بل تنطوي على نية بتحطيم إرث الرجل وشرعية «مقاومته» المختلفة عن الوصفة التي يريد «حزب الله» تعميمها باعتبارها الوصفة الوحيدة السليمة للمقاومة. وعدم التحاق إسماعيل بالقوى التي وجدها وقد هيمنت على البسواء بقيت على اسمها الأول فى حب مصر، أو تغيرت إلى ائتلاف دعم الدولة، أو خشى أصحابها من ردود أفعال ناقمة، فدبجوا اسما جديدا يحمل نفس صبغة الإقصاء والحصرية؛ يظل الحديث عنها مكررا، قد تناوله من قبلى الكثيرون ومازالوا. فليس مقصودى ههنا، تسويد صفحة أو تسطير مقال قدر ما هو تسجيل موقف يتطلبه الأمر أحيانا تلبية لنداء ضمير وإلحاق فطرة.. وربما تكثير لسواد الرافضين لعله يُحدث بعد ذلك أثرا.
منذ اللحظات الأولى للولادة المتعسرة لفكرة القائمة الموحدة، كنت ضمن جموع الرافضين بل المستهجنين، لاعتبارات كثيرة، لعل أبرزها عصف هذه الفكرة بكل معانى التعددية والتنافسية التى نروج على الناس وجودها بل حتميتها، وفق عقد المصريين الاجتماعى.. ليس العصف فحسب، وإنما الاستخفاف، بل والتحايل على الناخب المصرى بإقناعه أن ما تم تقريره وحسمه سلفا بالترهيب والترغيب وضخ الأموال الطائلة، إنما هو اختياره الحر بملء إرادته لمن سيمثله فى البرلمان، مراقبا ومشرعا.
أرغمنا جميعا على تجرع نجاح قائمة ضمت أشتاتا من البشر، ليس بينهم رابط واحد مفهوم يصلح لاستنتاج خطواتهم المستقبلية، اللهم إلا المال والمال وحده.. لتأتى بعد ذلك المرحلة الثانية من التلويح بعصا الدولة لمن عصى، أو حتى تساءل عن مفهوم تلك الدولة.
أراد مهندسو الانتخابات القابعون خلف نفس المكاتب القديمة، المفكرون بنفس العقلية القديمة، والمسكونون أيضا بنفس الروح القديمة، أن يستكمل مندوبه فى البرلمان ما تعذر إتمامه فى الانتخابات نفسها، ليس لحياء وقتها أو خجل معاذ الله، وإنما بدافع خوف غريزى من أن يتسع الخرق على الراقع قبل استتباب الأمور.
الآن سيختار هؤلاء من يرضون سيرته من واقع الملفات طبعا، ويثقون فى طاعته، عليهم الاختيار وعليه التنفيذ؛ وإلا فإن (حل البرلمان) وبالتالى ضياع ( التورتة) كان تهديدا حاضرا مباشرا فوريا.. التهديد كان فى بعض الشئ ربما لأن أصحابنا هؤلاء لا صبر عندهم لدليل أو تفاوض؛ ويبدو أن التهديد قد أثمر أكله بأسرع حتى مما توقعوا.
مفهوم الدولة فى مصر أصبح ملتبسا ومبتذلا ــ وأنا هنا أستعمل أكثر الأوصاف دبلوماسية ــ إلى أقصى حد؛ ولو أنك استوقفت اثنين لتسألهما عن دلالة لفظ الدولة، لظفرت باختلاف مذهل فى الإجابات، يندر أن يتوافر فى غير بلادنا.
هل الدولة هى الرئيس؟ هل هى أمن الدولة؟ هل هى أجهزة الأمن مجتمعة؟ أم هى لاتزال عند حدها الكلاسيكى مؤسسات تحافظ على ترابط المجتمع وتحمى مصالحه؟
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
لاد بعد عودته من الأسر الإسرائيلي، ذنب لا تغفره مشاركته في مقاومة الاحتلال ولا الأسر الذي وقع فيه.
لكن الأهم أن الغلو في التعرض اللفظي (القابل للتحول إلى تعرض جسدي)، يخفي سعياً إلى محو تاريخ الذات قبل محو تاريخ الآخر. تاريخ لم يُكتب لعائلات المقاومين الحاليين الآتي أكثرهم إلى موقعه الراهن من ولاءات للزعامات الإقطاعية القديمة (آل الأسعد وآل الخليل وآل العبدالله من بين آخرين) التي وقفت طوال عقود في صف السلطة الحاكمة في بيروت وانضوت في حلف يميني - طائفي مناهض لكل ما كان يرمز منذ استقلال لبنان إلى الالتزام بالقضايا العربية وبالتحرر. والحال أن إغفال تاريخ التعامل يتطلب أيضاً إغفال التاريخ الآخر لمقاومته التي هُزمت ومنعت بقرار من النظام السوري، الحليف الحالي للمقاومين الجدد.
لا يرغب المهيمنون على السلطة في جنوب لبنان اليوم بالحديث عن الأصول والخلفيات السياسية والاجتماعية التي جاؤوا منها. وبدلاً من تقبل التبدل الذي مرّ القنطار به – بغض النظر عن وجهته – يسعون إلى إسباغ الجمود على كل ما يصل إليه تصورهم عن عالم لا يدور إلا كما داروا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة