لم يتخيل أحد أن يبلغ التدنى فى المشهد الإعلامى المصرى لهذه الدرجة المبتذلة التى تستباح فيها أعراض الناس وتغتال سمعتهم
لم يتخيل أحد أن يبلغ التدنى فى المشهد الإعلامى المصرى لهذه الدرجة المبتذلة التى تستباح فيها أعراض الناس وتغتال سمعتهم حتى وصل الأمر لعرض محتوى جنسى منسوب لأحد الشخصيات البارزة بالوسط الفنى والسياسى (قيل إنه مفبرك بعد ذلك) على شاشة التلفاز وعمل ما يشبه محكمة تفتيش له على الهواء مباشرة، رغم أن الدستور المصرى ينص على حماية خصوصية المواطنين فى المادة 75 التى نصت على أن «للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والالكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائى مسبب، لمدة محددة، وفى الأحوال التى يبينها القانون. كما تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين فى استخدام وسائل الاتصال العامة بكل أشكالها، ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسفى، وينظم القانون ذلك، بينما تناولت المادة (76) حرمة المسكن للجميع بقولها «للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب، يحدد المكان، والتوقيت، والغرض منه، وذلك كله فى الأحوال المبينة فى القانون، وبالكيفية التى ينص عليها، ويجب تنبيه من فى المنازل عند دخولها أو تفتيشها، واطلاعهم على الأمر الصادر فى هذا الشأن..
رغم هذه النصوص الواضحة فى حماية الخصوصية فإن ما جرى فى مصر خلال العامين السابقين فتح الباب لتقنين التجسس على الناس وانتهاك خصوصيتهم ونشر رسائلهم ومحادثاتهم الخاصة تحت ذرائع حماية الوطن أحيانا، وتحت مبررات واهية لم يكن هدفها سوى الاغتيال المعنوى والانتقام من المعارضين السياسيين، وبث رسائل إرهاب نفسى للوسط السياسى ولكل المصريين تحت سمع النظام وبصره بالتوازى مع صمت جهات الضبط والمساءلة التى لم تتدخل لحماية المجتمع من هذا التدنى.
***
معروف أن من يمتلك أدلة قضائية حقيقية وقانونية ودامغة تدين أى شخص فإن مكانها الطبيعى هو أروقة المحاكم وساحات القضاء ولكن أمثال هؤلاء يدركون أن بضاعتهم فاسدة تعتمد على الفبركة والتأويل ونسج الأساطير وتزييف الحقائق وشيطنة المحتوى التافه بهدف الإساءة والتشويه والانتقام لذلك يلجأون لهذه الأساليب المخالفة للقانون، لكن المؤسف أن القانون لم يردعهم والأشد بؤسا أن كلهم يزعمون أنهم محصنون ويحظون بحماية الجهاز الفلانى أو المؤسسة الفلانية ويروجون ذلك حتى صار الناس يعتقدون بصحة ذلك لأن هؤلاء لا يطبق عليهم القانون ولا تطالهم لفحاته رغم كل الخروقات التى لا تحتاج لتوضيح ولا تبيان.
الأسئلة التى تطرح نفسها بقوة: هل الدولة عاجزة عن وقف هذا القبح؟ هل يمثل هؤلاء مراكز قوة يصعب على الدولة تخطيها والتخلص منها؟ هل الدولة رافضة لما يحدث أم مباركة له ومؤيدة؟ هل تورط أفراد من بعض أجهزة الدولة فى صناعة هذا المشهد القبيح؟ كل الإجابات المحتملة تشير إلى أن هناك دلائل غير ايجابية حول علاقة هؤلاء بالدولة وأجهزتها وأن بعضا من هؤلاء يعتمدون على نفاقهم وتطبيلهم للسلطة لتسكت عما يفعلونه من مخالفة للقانون وإساءة للمجتمع.
لو تمت مساءلة ومعاقبة من تورطوا فى مخالفة الدستور والقانون منذ بداية هذا المسلسل القذر لكان ذلك ردعا وزجرا لكل متجرئ ومتجاوز، ولكن تحت مبررات واهية وخلط كاذب، صار هؤلاء يتصدرون المشهد ويعتبرون أنفسهم قادة رأى وأصحاب فكر يمتلكون منابر إعلامية يمارسون منها هذا القبح!
نستطيع أن نقول بكل وضوح وبلا مواربة أن هذا القبح وتلك الفوضى لن تتوقف إلا بقرار سياسى حازم وحتى كتابة هذه السطور لم يصدر من السلطة فى مصر سوى بعض إشارات الاستياء البسيطة التى لا تتلاءم مع جرم حدث ويحدث يوميا من نهش فى الأشخاص.
***
لا علاقة لما يحدث فى مصر بحرية الإعلام، هذه فوضى عارمة لا تدرى شيئا من أصول المهنية والاحترام، وظهور أمثال هؤلاء على الشاشات كل يوم يعنى صفعة جديدة للدستور والقانون فى مصر، المشكلة الكبرى التى لا يهتم بها النظام أن هؤلاء صاروا واجهته أمام المصريين وأمام العالم الخارجى الذى صار مذهولا مما يحدث وهو ينقل هذه الفضائح والانتهاكات التى يشهدها الاعلام المصرى.
الطريق للخروج من هذا القبح يبدأ بقرار سياسى صارم وإرادة سياسية واضحة لا تعرف التردد تنزع الحماية عن هؤلاء وتقوم بتفعيل القانون الذى يدهسونه ليتم حسابهم على ما اقترفته أيديهم من انتهاك للدستور والقانون وممارسة البلطجة والارهاب الاعلامى على المصريين مع اصدار تشريعات جديدة تلزم أصحاب رأس المال باحترام قنواتهم وصحفهم للدستور والقانون وحياة الناس وخصوصيتهم، ومساءلتهم واعتبارهم شركاء فى الجريمة.
إهدار القانون وإسقاطه فى عيون الناس لن يعود بالخير على بنيان الدولة واحترامها فى قلوب مواطنيها، كل يوم يزداد التصدع وتنشأ أجيال جديدة تعتقد أن القانون هو كلمة تاريخية من التراث لا تمت للواقع فى مصر بصلة وهذا سيخلق مستقبلا يتم فيه وطء بالقانون بالأقدام وسيصبح من الصعب إخضاع الناس للقانون بعد أن رأوا أن الدولة لا تعنى بتطبيق القانون ولا حماية الدستور الذى تقوم عليه شرعيتها!
كلُ يعرف وجهته وكلُ يدرك أين تمضى به خطواته وعليه الاختيار.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة