شرُفت البشرية بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن ميلاده كان إيذانًا بأفول مرحلة انتشر فيها الظلم والعدوان
شرُفت البشرية بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن ميلاده كان إيذانًا بأفول مرحلة انتشر فيها الظلم والعدوان،
والتناحر والاقتتال، والعنصرية والاستعباد والثأر، وساد الظلامُ القلوبَ والعقولَ، فكان ميلاده صلى الله عليه وسلم ميلادًا للنور الذي أنار القلوب والعقول، وكان الهداية التي أزاحت عن الأمة نير الثأر والاقتتال، وحلَّت في القلوب عبادةُ الله تعالى بعد أن كانت تعبد أصنامًا لا تضر ولا تنفع، وظهر الحق واضحًا وزهق الباطل وانزوى، وعمَّت الأمةَ الرحمةُ التي أرسله الله بها، فقال تعالى: «وَمَا أرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»، فغمرت القومَ رحمتُه والتفوا حوله، فكان صلى الله عليه وسلم نورًا يجلو الظلمة، ويزيح الران عن الأفئدة، ويجلو غشاوة الأعين، فإذا هي مبصرة بنور الحق تبارك وتعالى، فقال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».
والرحمةُ من أجلِّ الدروس المستفادة من سيرته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان رحمةً مهداة من عند الله تعالى للعالمين، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيمًا رقيقًا، لا يعنف أحدًا، ولا يتجهم في وجه أحد، فقد كان صلى الله عليه وسلم ذات يوم يعلم أصحابه في المسجد إذ جاء أعرابي فبال في المسجد، فقال أصحابه: مه مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه دعوه»، ثم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة».
فعلمنا صلى الله عليه وسلم أن بالرحمة نبني مجتمعًا متحابًّا لا متنابذًا؛ فهي من أهم دعائم الفرد والمجتمع، إذ إنها تنشئ الفرد على أعلى مستويات الإنسانية، وتربي المجتمع على التراحم والتواصل والود والمحبة والرأفة، فيتخلص من أدرانه وأمراضه، ويصبح مجتمعًا صحيحًا قادرًا على البناء والنهوض والحضارة، بعيدًا عن تلك الدعوات التحريضية التي تحض على الاقتتال والتناحر والتي تشذ عن السلوك النبوي السليم.
وفي يوم مولده نتذكر أن القوانين الحاكمة للمجتمع قبل مولده كانت قوانين انتقائية، للسادة قوانين، وللعبيد أخرى، والمرأة متاع، والابن وارث والبنت توأد في التراب، فكان ميلاده هادما لكل تلك الأباطيل، بحيث أصبح للأمة قانون واحد ودستور إلهي، الكل فيه سواء، لا سادة فيه ولا عبيد، ولا مفاضلة لذكر على أنثى.
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يغرس في نفوس أصحابه والأمة من بعده الشعور بالمسئولية التي سيحاسبون عنها يوم القيامة، والتي رغَّب الله تعالى في كتابه الكريم في طيب الحياة لمن يعمل صالحًا مضطلعًا بمسئوليته فقال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ»، فقيام المرء بمسئوليته في حياته لا يقف على الدنيا بل هو امتداد للآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته» قال ابن عمر: وحسبت أن قد قال «والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته»، فتحقيق مصلحة الإنسان وفوزه برضا الله تعالى مرتبط بقيامه بمسئوليته كخليفة في الأرض، فالخلافة المسئولة هي الأساس الذي يجب على الإنسان أن يعيه تمام الوعي، ويدرك العوامل التي تساعده على تحقيقها.
وفي يوم مولده يجب أن نذكر أن الأمة بحاجة إلى أن تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في صدقه وأمانته، بعد أن ابتليت بالكذب والتضليل ونشر الشائعات وفساد الذمم، قال صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»، فإذا ما كان الصدق منهجًا لقوم هُدوا إلى البر، والبر كلمة جامعة لكل وجوه الخير، ومختلف الأعمال الصالحة، وهذا البر يقودهم إلى الجنة في الآخرة كما أنه يهديهم إلى جنة الدنيا، بالاستقرار والنعيم والأمن والأمان.
ولقد وصف الله تعالى نبيه في كتابه العزيز بقوله: «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ»، فقد تمثلت أمانته في أمانة الكلمة وعفة اللسان، والأمانة على الأرواح والأموال والأعراض وغيرها، فما ينبغي أن يكون المسلم سببًا في أذى أخيه المسلم بأن يناله باللسان أو أن يكون سببًا في سفك دمه.
وفي يوم مولده نذكر أنه بالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتيمًا اضطهده قومه وآذوه وأخرجوه من أحب البلاد إلى قلبه وناصبوه العداء وحاربوه هو وأصحابه؛ فإن تلك الأفعال مجتمعةً لم تنل من قلبٍ تعهده الله بالتربية والتطهير، ومن نفس اصطفاها الله بالرسالة، ومن شخصية لم تكن رحمةً لأهلها ولا قومها فقط، بل كانت رحمة للعالمين.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة