خطاب البغدادي.. هل تتحوّل "الذئاب المنفردة" إلى جريحة؟
كثيرة ومتشعّبة هي الدلالات والإشارات التي حملها التسجيل الصوتي الأخير المنسوب لزعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي.
كثيرة ومتشعّبة هي الدلالات والإشارات التي حملها التسجيل الصوتي الأخير المنسوب لزعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، الذي بثته مواقع موالية للتنظيم.
التسجيل الذي حمل عنوان "فتربصوا إنا معكم متربصون" جاء في 24 دقيقة، وازدحم بآيات من القرآن الكريم تدعو إلى الصبر والتحمّل، باعتبار أن الهزائم والخسائر التي مُني بها التنظيم في الآونة الأخيرة جرّاء الضربات الجوية الأمريكية والروسية لم تضعفه، بل إنّما هي "ابتلاء"، فـ"إن أصابنا القتل وكثرت الجراح وعصفت بنا النوائب وعظمت المصائب فلا عجب أيضاً، وهو وعد الله لنا، بل إنّ الابتلاء قدر محتوم"، كما ورد في الخطاب الذي خلا من تراجم إلى لغات أجنبية، كحال الخطابات السابقة.
والدلالة الأبرز، لدى قراءة الخطاب من وجهة نظر التحليل النفسي، هو الشعور بالضيق والحصار وألم الخسارة التي دفعت البغدادي إلى الاعتراف -غير مرة في خطابه- بأنّ على "المجاهدين" أن يثبُتوا "وما أمامكم إلا إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة" ثم ناشدهم "فاثبتوا فإما حياة عزيزة كريمة، وإما قتلة سعيدة وشهادة مشرِّفة".
وغابت عن الخطاب، كما لوحظ، لازمة "النصر المؤكّد"، لتحلّ مكانها لغة التعزيز ورفع المعنويات وشحذ الهمم، واللجوء إلى النصّ الدينيّ في أكثر لحظاته وجدانيّة وبعثاً على الألم والمظلومية، من خلال استحضار البغدادي ما رواه الصحابي خباب بن الأرت عن النبي عليه السلام "قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسدٌ بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا، فقال: (قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليَتمنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)".
وفي سياق الشحذ النفسي، راح البغدادي، في دلالة لافتة وجديدة، يلعب على أكثر الأوتار حساسية في ضمير العرب والمسلمين، وهو فلسطين، حيث أفرد لها حيّزا من خطابه، في أول مرة وبهذا الوضوح، حيث يعلن التنظيم العزم على تنفيذ عملياته في العمق الإسرائيلي، من أجل تحرير الأقصى وفلسطين "نعم فلسطين، التي ظن اليهود أننا نسيناها وظنوا أنهم أشغلونا عنها، كلا يا يهود، ما نسينا فلسطين لحظة، وبإذن الله لن ننساها وقريباً قريباً بإذن الله تسمعون دبيب المجاهدين، وتحاصركم طلائعهم، في يوم ترونه بعيداً ونراه قريباً، وها نحن نقترب منكم يوما بعد يوم، وإن حسابكم لعسير عسير، لن تهنؤوا في فلسطين أبداً يا يهود، ولن تكون داركم وأرضكم، لن تكون فلسطين إلا مقبرة لكم، وما جمعكم الله فيها إلا ليقتلكم المسلمون، حتى تختبئوا خلف الشجر والحجر، ولقد علمتم ذلك جيداً، فتربصوا إنا معكم متربصون".
ولعل استحضار القضية الفلسطينية في الخطاب ليس وارداً لذاته، وإنما لرد الاتهامات ضده بأنه لا يُعير فلسطين أولوية، وهو ما يؤكده الباحث الأردني المتخصّص في شؤون الجماعات الجهادية د. محمد أبو رمّان، الذي قال لموقع "العين الإخباري": إنّ "البغدادي تعمّد في خطابه الأخير الإشارة إلى القضية الفلسطينية للمرّة الأولى وإصدار الوعيد والتوعّد للإسرائيليين، وهو بذلك يحاكي خطاب القاعدة، الذي كان يعاني من التهمة نفسها، أي عدم الاهتمام بالموضوع المركزي لدى كثير من العرب والمسلمين اليوم، القضية الفلسطينية، فقامت القاعدة قبل سنوات بإقحام القضية الفلسطينية في صلب خطابها لدغدغة عواطف العرب والمسلمين، وهي الحال نفسها اليوم لدى تنظيم داعش وزعيمه، بخاصة أنّ الاتهامات أصبحت على درجة أكبر بكثير مما كانت عليه الحال لدى القاعدة، إذ أنّ بعض أعضاء التنظيم تحدثوا سابقاً عن عدم أولوية القضية الفلسطينية لديهم، ما خلق ردود فعل كبيرة، أراد البغدادي أن يواجهها في خطابه الأخير عبر الإشارات للقضية الفلسطينية والتوعّد ضد الإسرائيليين".
لكن، ومن الناحية العملية، وبالرغم من أنّ التنظيم كغيره من تنظيمات إسلامية أخرى، معنيّ بالقضية الفلسطينية، نظريًّا وأيديولوجيًّا على الأقل، إلاّ أنّ طبيعة تنظيم وأيديولوجيا داعش تحديداً، في نظر أبو رمان، لا تعطي القضية الفلسطينية أهمية مركزية على المدى القصير، "حتى لو أراد البغدادي توظيف هذه القضية لتحسين قدرة التنظيم على التجنيد وتسويق نفسه بوصفه الدّرع الحامي للمجتمعات العربية والمسلمة اليوم".
فتنظيم داعش -يتابع أبو رمان- "هو امتداد لتنظيم الزرقاوي، ويرتبط بدرجة أكبر بالقضية الطائفية، أي الصراع السني- الشيعي، والشعور بخطر التهديد الإيراني لديهم أكبر من التهديد الصهيوني عموماً، وهذه القاعدة تسكن العقل الداعشي بدرجة عميقة، فهم من وجهة نظرهم في صراع على الهوية الدينية، ووجودي مباشر في العراق وسورية، بينما في فلسطين، وفقاً لهذا المنطق، فالصراع هو جغرافي على الحدود، وقبل التخلص من (الأزمة الداخلية العميقة) وتحرير (المجتمعات السنية) من (الخطر الشيعي) فلن تكون القضية الفلسطينية على أولوية أجندة التنظيم".
ويستبعد أبو رمان أن يكون التنظيم "يفكّر بالفعل بالقيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل أو نوعية داخلية من قبل ذئاب منفردة أو خلايا نائمة"، مستدركاً: "كل ذلك وارد، لكن لن تكون القضية الفلسطينية على المدى القريب ضمن الأولويات الحقيقية للتنظيم".
وإذ يعترف البغدادي، وهذه دلالة أخرى في خطابه، بأن "داعش" سيواجه أياماً صعبة، فإنّه يعمل على توسيع فضاء خطابه لتضييق هوة الخلافات بينه وبين التنظيمات الجهادية الأخرى، وفي ذلك إحالة إلى أزمة المناصرين للتنظيم التي أخذت تنكمش، ما جعل البغدادي يشيد بجهود خصومه السابقين من طالبان والقاعدة، إذ يقول في خطابه: "وها هم النصارى الصليبيون وأمم الكفر وملله معهم ومن ورائهم اليهود، لا يجرؤون على المجيء برًّا لقتال ثلة قليلة من المجاهدين، وكل يدفع صاحبه ليورطه، لا يجرؤون على المجيء لامتلاء قلوبهم رعباً من المجاهدين، ولأنهم بفضل الله تأدبوا في أفغانستان والعراق، وعلموا أنه لا طاقة لهم بالمجاهدين، لا يجرؤون على المجيء لأنهم يعلمون يقيناً ما ينتظرهم من الأهوال والويلات".
ويقرّ كبير الباحثين في قناة "العربية" د. هاني نسيرة بأنّ هذه الإشارة إلى طالبان والقاعدة تعبير عن أزمة البغدادي الذي اعترف "بتراجع تنظيمه وشدة قتاله"، كما أكد وجود "انشقاقات تنظيمية، حيث اعتبر أنّ الأزمة التي يمرّ بها التنظيم تطهره من غير الصادقين كما ذكر".
ويرى نسيرة في تصريح لموقع "العين الإخباري" أن التسجيل الصوتي الأخير للبغدادي هدفه فقط "شدّ أزر أنصاره ومؤيديه واستنفارهم لأيام قاسية مقبلة"، وإعلان "بقاء البغدادي حيًّا كقيادة غائبة".
"خطاب الأزمة الداعشي مستمر.." يقول نسيرة، لذا يتوقع أن يسعى "داعش" لاستخدام الذئاب المنفردة والانتحاريين "للتخفيف من ضربات العالم وقواته ضده، حيث يريدها حرباً شاملة ضد كل من هم غير مسلمين، وهو ما يكشف أيضاً ارتباكاً وتراجعاً"، لأنّ البغدادي يعتبر أن "داعش" يقوم حالياً "بحرب الدول الكافرة نيابة عن المسلمين جميعاً".
ومن بين الإشارات التي حملها خطاب البغدادي الانتقادات التي وُجّهت لجهود المملكة العربية السعودية لإنشاء تحالف من دول إسلامية لمكافحة الإرهاب وقتال تنظيمه، واصفاً الحلف بأنه "ليس إسلاميًّا" وهدفه "قتال دولة الخلافة"، وأضاف: "لو كان هذا التحالف إسلاميًّا، لأعلن عن نصرة ومساعدة الشعب في سوريا"، متناسياً أو غافلاً عن جهود السعودية وبعض دول الخليج لمساعدة الشعب السوري، وتوحيد صفوفه، كما جرى في مؤتمر الرياض الأخير، الذي يهدف، كما أفادت الأنباء، إلى تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في فيينا من توحيد المعارضة وتشكيل وفد منها يتمتع بتخويل ورؤية واحدة إزاء مستقبل البلاد، ليجلس على الطاولة في يناير(كانون الثاني) المقبل في محادثات محتملة مع النظام، وهو ما أقرّ لحسم المرحلة الانتقالية والتحضير لانتخابات رئاسية بعد 18 شهراً.
خطاب البغدادي الذي وسّع دائرة "الأعداء" يُقرأ كخطاب أزمة وانحشار في زاوية، وأيضاً كعنوان لضيق "داعش" لا إشارة إلى عافيتها، فالتنظيم الذي اعتمد في وقت سابق "الذئاب المنفردة" ليعلن سطوته وقوته، ربما يلجأ، في المرحلة المقبلة، إلى استراتيجية "الذئاب الجريحة" التي تدافع بضراوة عما تبقى لها من رمق، فتمضي تخبط خبطَ عشواء، وفي ذلك تكون أشدّ توحشاً وعماءً وهمجيّة!