حجر جهنم: تحولات الواقع بين القاهرة وأبها
قليلة هي الأعمال الأدبية المصرية وربما العربية التي تناولت كواليس عالم الصحافة، وسلطت الضوء على العلاقات بين الصحافيي.
قليلة هي الأعمال الأدبية المصرية -وربما العربية- التي تناولت كواليس عالم الصحافة، وسلطت الضوء على العلاقات بين الصحافيين.. ومن هذه الروايات رواية "حجر جهنم" للشاعر والأديب والصحافي حمدي عابدين، التي صدرت أخيرًا في القاهرة عن دار "ابن رشد للنشر"، التي أصدرت مطلع العام ديوان شعر للكاتب نفسه بعنوان "رجل الهاي لوكس".
ومثلما كانت رواية "زينب والعرش" رائعة الأديب والكاتب الكبير فتحي غانم بنت عصرها، تكشف رواية "حجر جهنم" عمق التحولات التي شهدها الواقع المعاصر، كما يتبدى من خلال مهنة الصحافة، والعلاقات بين ممتهنيها منذ الثمانينات، بفعل التحولات الاجتماعية والسياسية، ليس في مصر؛ وإنما في العالم العربي.
تدور أحداث الرواية التي استغرقت كتابتها سبع سنوات بين القاهرة وخميس مشيط؛ وهي مدينة صغيرة في جنوب السعودية، حيث كان بطل الرواية يعمل في مكتب صحيفة سعودية وعربية كبيرة، ويحاول الكاتب من خلال الرواية أن يفضح عبر شخوصها وأحداثها العلاقات الشائنة التي سيطرت على الكثير من الأعمال والمهن، بما في ذلك الصحافة، وأن يسلط الضوء على مدى الفساد الذي تعرضت له أخلاقيات مهن، يفترض أن شرفها يجب أن يكون بعيدًا عن المس أو التدنيس.
تتسع رواية "حجر جهنم" لقراءات متعددة المستويات، حيث لجأ مؤلفها إلى الاعتماد على آليات مختلفة للسرد، بعدم توقفه عند حدود المكان وتجاوزه للزمان ومزجه بين الواقع والخيال، مما جعل الرواية تتسع لقراءات تصل إلى آفاق تتجاوز الحكايات المباشرة والحوادث الصغيرة، لتصور بلغة أقرب إلى لغة الشعر مدى الجنون الذي وصلت إليه مجتمعات المنطقة، نتيجة لتبدل الموازين والأقدار بفعل الثروة التي هبطت على البلاد التي ظهر فيها النفط.
وتصور الرواية عبر الحكايات التي عايشها الكاتب -وكان بحكم عمله صحفيًّا شاهدًا على كثير منها- التغيرَ الذي طرأ على الواقع الاجتماعي، وعلى العلاقات الشخصية جراء ظهور تلك الثروة المفاجئة، وكذا التغير الذي مس البلدان التي لم تهبط عليها تلك الثروة.. ذلك التغير الذي جعل من المال والسعي وراءه معيارًا لكل شيء، بما في ذلك أدق العلاقات بين البشر، صورته الرواية ببراعة ربما تفوق أبحاثا ودراسات وأعمالا فكرية سعت إلى فهمه وتحديد ملامحه.
لجأ الكاتب كذلك إلى أسلوب جديد في تبويب روايته، يتيح له توظيفًا أمثل للغة التقريرية، وكذلك للغة الأدبية... فالرواية التي يزيد عدد صفحاتها قليلاً عن 200 صفحة مقسمة إلى إحدى عشرة فاصلة و16 فصلًا، اختتمها بفصل قصد ألا يحمل رقما في ترتيب الفصول، وببكائية أخيرة تصور اللحظات الأخيرة، والنهايات المفجعة لعالم رآه ورأته روحه، لكنهما كتما شهادتهما عليه، فلم تجد روحه بعد أن فارقت الجسد سبيلا للخلاص سوى العودة، تجر الجسد الميت لتفضح ما رأته، وتعري تفسخ العالم الذي عايشته.
خصص الكاتب الفواصل الثلاثة الأولى لتقديم مشاهد كسر من خلالها توقعات القراء؛ عن متوفى خرج للتو من قبره بعد أن نزعت الملائكة أكفانه، وطردته شر طردة، بعد أن رفضت محاسبته، وأمرته بأن يأخذ روحه ويعود من حيث جاء، ويجعلها تبوح بما رأت، وتأخذ حقها ممن أرقوها كشرط لراحتها الأبدية.. ويهيئ الكاتب من خلال هذه الفواصل الثلاثة الأولى نفسه والقارئ لإعادة تصوير أحداث مضت، والنظر إليها بعين ناقدة، ترفض قبول ما هو مستقر ومتعارف عليه من أشياء.
فيقدم الكاتب مثلا صورة أخرى للشياطين تخالف ما نعرفه عنهم، فتحدث عن "شياطين تحرس جثة أصبحت عنوانا لشخص تعس"، فتلك الشياطين "تخالف كل ما حشوا به رؤوسنا من أفكار عن الشياطين وشرورها... كانوا كائنات عادية يشبهوننا تماما."
ويقدم في الفاصلة الثالثة "لوحة ساحرة من كائنات شيطانية بديعة"، وكأن القصد منها أن تمنح الجسد الميت قدرة للعودة إلى الحياة، وتضعه في مواجهة ماضيه الذي عليه أن يواجهه ليفضحه، وقد سبقته روحه للبحث عن الأشخاص الذين عرفتهم عندما كانت تسكن جسد وَجْدي -بطل الرواية-، والتي لم تجرؤ على التصريح بما تعرفه عنهم والتزمت الصمت، وقررت أن تترك الأجساد تتعايش مع الأرواح التي تناسبها، حتى قررت بعد تحررها من الجسد أن تبوح بما رأت وبما تعرف، وذهبت لتحكي عن الأرواح وأصحابها، وقد راحت برغبة وإصرار تكشف أسرارهم، وتقاتلهم في مخابئهم.
وعلى مدى 16 فصلاً؛ يروي الكاتب من خلال روح البطل -وأحيانا من خلال البطل ذاته أو من خلال آخرين- حكاياتٍ وحوادثَ متجاورة ومتداخلة تماما، مثلما تتجاور وتتداخل حياتنا وما نراه من حكايات وحوادث في الواقع، لكن تظل روحه التي تحررت من ثقل الجسد هي الراوي الرئيسي لكل ما رآه هو والآخرون، وأشياء أخرى لا تدركها حواس البشر المحدودة؛ روح تستطيع الانتقال بحرية بين القاهرة وخميس مشيط، وتستطيع أن تتحرك بحرية في الماضي وأن تستشرف النهايات.
وربما كانت روح البطل بالذات هي الأجدر على أن تروي؛ فهي -كما تعلن في بداية الفصل الثاني- "شرفة وحدته التي ظل حتى فراقي يرى من خلالها النور"، فكانت روح وجدي تدير كل شؤونه، وهو كان يتعامل بروحه مع كل شيء.
هذه الروح تحكي عن صاحبها (وجدي) بطل الرواية وعن أناس بسطاء تعامل معهم، كما تروي عن زملاء في المهنة وأصدقاء وصديقات وحبيبات، وتعمد الكاتب في معظم فصول الرواية كسر حاجز المكان بين القاهرة وخميس مشيط، خصوصًا فيما يتعلق بالعمل، ليبين كيف أفسد السعي وراء المال مهنة الصحافة أخلاقيا هناك وهنا، ويوضح كيف يقتل السعي وراء المال أبسطَ أحلام من جاءوا من بلاد بعيدة بحثًا عن لقمة عيش، في بلادٍ بدَّلَ النفط وثروته المفاجئة أحوالَها وحظوظها، فصارت تبدل البشر وتعيد تشكيلهم بما يتفق مع الموروثات العتيقة لهذه البلدان.
اختار الكاتب أن تبدأ القصة من لحظة وصول بطله وزوجته ورضيعهما إلى مطار (أبها) في جنوب السعودية، وكيف غير هذا الانتقال حياتهم؛ بدءًا من الزوجة التي توارت خلف ملابس سوداء تغطيها من أخمص قدميها إلى شعر رأسها، وتساءل مستغربا: لماذا تفعل هذا؟ تساءل وهو ينظر إليها بنظرة تحمل مزيجا من الإشفاق عليها والحنق لأنها دفعته دفعا للمجيء إلى بلادٍ؛ معرفته عنها لا تجعله يفكر في المجيء إليها أصلا.
هنا.. تتدخل روح وجدي لتحدثنا عن أزمته الحقيقية، وإدراكه بعد أشهر قليلة من وصوله أن ما يعرفه لا يساوي شيئا أمام ما يراه، ففي حين كان يدرك أن أزمته "سوف تكبر وتستفحل كلما غذاها بمشاويره نحو البنك ليعرف كم وصل حسابه وحساب زوجته من مدخرات، لكنه لم يحسب -ولو للحظة واحدة- أنه سيموت مفلسًا متخليًا عن أحلامه وطموحاته، مظلوما غير قادر على القليل مما كان يستحق من متاع الدنيا الفانية."
وهنا.. تعلن روحه رفضها.. "ملعون أبو الدولار على أبو الريال على الدينار... ملعون أبو هذه الوساخات التي لوثت شوارعنا وعقولنا ورؤوسنا قبل أن تلوث جيوبنا وملابسنا، ملعون أبو الفلوس واللي بدعها"، وسبقته روحه تصف مكان الجريدة التي سيعمل فيها (وجدي) قبل أن يخرج صاحبه وزوجته من المطار، وتقارن بين الحال في المدينة التي انتقل إليها والحال في القاهرة عن العمال الهنود والباكستانيين والبنغال، الذين كانوا متواجدين بكثرة في المطار وفي المدينة، يعملون حمالين وفي أعمال النظافة.
ويستكشف وجدي أثناء تعاقده على مسكن يستقر فيه وزوجته أنماطًا من البشر سيتعامل معهم في البلدة، ولم يفت الكاتب أن يخصص الفاصلتين الرابعة والخامسة ليقدم تقريرًا للقارئ عن هذه البلدة وتاريخها، وفي الفصول التالية للرواية يستخدم الكاتب أسلوب الاسترجاع الفني (الفلاش باك)، ليستعيد تفاصيل المسيرة التي قادت صاحبنا بطل الرواية إلى تلك البلدة التي تقع في مكان قصي من العالم، وليكشف لنا عن عوالم للبشر ولكائنات أخرى من الحيوانات الأليفة وغير الأليفة؛ شاركت بطل الرواية وجيرانه مساكنهم وأقواتهم، في إحدى المناطق العشوائية في القاهرة، قبل أن ينتقل منها ليعيش في منطقة أخرى من أحياء الفقراء في قلب العاصمة المصرية، وتنتقل بنا بين مقاهي وسط المدينة، وما يسكنها من حكايات لروادها عن علاقات معقدة بين البشر.
وتنقلنا الروح في الراوية في الفصل الثالث إلى داخل الكلية في خميس مشيط، حيث تعمل الدكتورة (أحلام) زوجة وجدي وأخريات، من بينهن نادية محمد سليم بطلة الفصل الأخير في الرواية بلا منازع، التي جسدت قسوة المفارقة التي عايشها بطل الرواية وكل شخوصها، والتي صاغها في رسالة مبللة بالدموع إلى والدتها في مصر من سجنها، الذي كانت تقبع فيه نادية في انتظار حكم بالإعدام، بعد أن انتهت رحلتها بأن أصبحت قاتلة بالصدفة لذلك الرجل الذي ظلت تخطط طويلا لاستدراجه وقتله، وتقطيع جثته إربا وإلقائها في صناديق القمامة.
وصاغ الكاتب حادثة حقيقية وقعت في تلك البلدة النائية، ليوظفها في الخط الدرامي لروايته، لتصل إلى ذروة العقدة الرئيسية للرواية، قبل أن تتداعى شخوص الرواية متساقطة في لحظة النهاية.
وعلى الرغم من تركيز الكاتب على شخصية نادية في الفصل الثالث من الرواية؛ غير أنه ظل محتفظا بعنصر المفاجأة الذي ارتبط بمدرسة اللغة الإنجليزية القادمة من قرية أبيدوس بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، لتصبح قاتلة دفاعا عن شرفها الذي أهين في أحد شوارع البلدة الخالية، بعد ارتفاع الآذان للصلاة، والتي يتداعى مع تنفيذ حكم الإعدام فيها في ساحتها العامة شخوص العالم الموازي، التي لم يملأ مساحات الفراغ الشاسعة في حياتهم سوى علاقات مشوهة ومختلة، لا وجود لها إلا في مخيلة العاجزين.
وهكذا.. بين فصول الرواية وفواصلها يلقي حمدي عابدين بالقفاز في وجوهنا جميعا، ويستصرخ أرواحنا بألا تكتم الشهادة، وبأن تبوح بما ترى، وبأن تواجه وتقاتل دفاعًا عن حقها في حياة كريمة.
aXA6IDMuMTMzLjEyOC4yMjcg جزيرة ام اند امز