حينما ترنمت المنقبات اليمنيات على أنغام دف التسعينات
في التسعينيات شهد اليمن بروز ظاهرة غناء المنقبات، وازدحمت حينها المحلات بأشرطتهن، كما كان يعرضها الباعة المتجولون على الأرصفة
لليمن طبيعة مجتمعية خاصة، وتركيبة قبلية وعشائرية لها فرادتها، وترتد بجذورها إلى أزمان بعيدة، ونادرًا ما تشهد الثقافة السائدة ظواهر جديدة تثير جدلًا، أو تشعل نقاشات حادة قد تصل إلى حد إصدار الفتاوى التي يمكن أن تجرم بعضًا منها، في التسعينيات من القرن الماضي، شهد اليمن بروز ظاهرة غناء المنقبات، وسرعان ما تنامت وتضاعفت لتتجاوز حد الظاهرة المحدودة، وتصبح أمرًا واقعًا ملموسًا وذا أثر، حيث ازدحمت حينها محلات بيع التسجيلات الصوتية بأشرطتهن، كما كان يعرضها الباعة المتجولون على الأرصفة في الشوارع، ولاقت أشرطة المنقبات قبولًا شعبيًّا واسعًا، وحققت أرقام مبيعات عالية حسب أصحاب محلات بيع الأشرطة خاصة في الأرياف، كون الأغاني اعتمدت اللهجة العامية وتتطرق إلى بعض المشاكل الاجتماعية في تلك المناطق.
المتخصصون في ظواهر الاجتماع والثقافة لا يستطيعون فصل هذه الظاهرة عن سياقها الأوسع، خاصة في ما شهدته مصر أيضًا خلال تلك الفترة من التنامي التدريجي لما كان يسمى "الأناشيد الإسلامية"، إذ أخذ النشيد (الإخواني) مكانه في العديد من المناسبات في مصر؛ من التجمعات النقابية والطلابية، وحتى الاحتفال بالزفاف أو قدوم مولود جديد في العديد من شرائح المجتمع وخاصة الطبقة الوسطى.
لكن وعلى عكس الترحيب اللافت الذي لاقته الأناشيد في أرياف مصر وصعيدها وحتى بعض الأماكن في أطراف القاهرة الكبرى والتجمعات المزدحمة، فإن القيود التي تفرضها التقاليد في المجتمع القبلي اليمني أدت إلى تعرض العديد من هؤلاء المنتقبات المغنيات إلى التهديد بالقتل، مما دفعهن إلى الاكتفاء بالاسم الأول في ألبوماتهن دون ذكر اسم النسب العائلي أو باختيار أسماء مستعارة، خاصة مع الانتشار الذي حظيت به هذه الظاهرة في اليمن في محافظاتها الشمالية، خصوصًا وسط القبائل إلى جانب الغناء في الأعراس، لكن سرعان ما انتهت هذه الظاهرة بانتهاء شركات الإنتاج.
اختفت ظاهرة غناء المنقبات بعد أن أشعلت جدلًا فنيًّا ودينيًّا في اليمن، حيث اعتبره البعض النهاية المتوقعة لأي ظاهرة جديدة لم يتم التعامل معها كفن يجب تحسين أدائه، واعتبره آخرون اعوجاج في الساحة الفنية، فقد يرى عدد من علماء الدين أن الغناء حرام من أساسه، وخاصة الأغاني ذات الألفاظ البذيئة، ومن تغني وهي غير منقبة أشد إثمًا ممن تغني منقبة؛ لأن المتبرجة تكسب إثم التبرج وإثم الغناء!
ويقول فؤاد الشرجبي مدير عام البيت اليمني للموسيقى والفنون لـ"بوابة العين الإخبارية"، إن "ظاهرة غناء المنقبات اختفت لكونها مجرد ظاهرة لم يتم التعامل معها كفن شعبي ظهر بشكل عفوي، كان يفترض أن يتم تشجيعه وتقديم المعالجات الفنية من انتقاء الكلمات المهذبة، وكذا تقديم دورات تأهيل للفنانات خاصة أنهن لم يكملن تعليمهن ومستوى ثقافتهن بسيط نوعًا ما، إضافة إلى أن الفنانة كان لديها وسيط هو المتحدث بالنيابة عنها، وهو من يتفق مع المنتجين، وكان يلعب دورًا كبيرًا في رفض وقبول العروض المقدمة لهن، كما أن انتهاء شركات الإنتاج ساهم بشكل كبير في اختفاء هذه الظاهرة".
ويتفق الصحفي والشاعر عبد الرحمن التاج معه قائلًا: اختفاء ظاهرة المنقبات يعود إلى انتهاء شركات الإنتاج، حيث إن مؤسسات الإنتاج كانت هي المستفيد الأبرز من هذه الظاهرة، حيث وصل عددهن إلى ما يزيد على 20 فنانة هن فقط من أصدرن "كاسيت" اُنزل إلى الأسواق، حسب ما قاله لـ"العين".
من جهته يقول مالك فؤاد أحد الفنانين الشبان لبوابة العين: "ليس عيبًا أن تغني الفتاة منقبة، خاصة أن هناك العديد من الفنانات العاريات اللواتي استطعن إيجاد جمهور متابع لهن، وباعتبار أن النقاب من سمات المجتمع اليمني، فلا علاقة له بنوع المهنة كالغناء"، ويرجح مالك اختفاء الفنانات المنقبات لكونهن اتجهن إلى الغناء الشعبي البسيط ومحاكاة الفئة البسيطة من الناس.
ويتابع "مؤسف أن يكون أحد الفنون الشعبية مجرد ظاهرة وتنتهي، كان من المفترض تطوير وتحسين أدائهن بما يرتقي مع الفنون، فمن المعيب وجود كلمات مبتذلة في بعض الأغاني، وتلك كانت المشكلة التي كانت تمثل اعوجاجًا في الساحة الفنية".
ويشير الشرجبي إلى أن أغلب هؤلاء الفنانات اتجهن نحو الإنشاد الديني بشكل جماعي، ومنهن من اتجهت إلى الغناء في أعراس نسائية، ويحمل الشرجبي وزارة الثقافة بدرجة رئيسة سبب انتهاء هذه الظاهرة، فعلى وزارة الثقافة الاهتمام بالفنون الشعبية وتطويرها، حد قوله.
وتقول جهات فنية يمنية، إن المطربات المنقبات لم يكتفين بإصدار ألبومات تعرضها المحال، بل توجد مجموعات أخرى منهن تخصصت في الغناء في حفلات الزفاف، وأدت القيود - التي تفرضها التقاليد في المجتمع القبلي اليمني - إلى اكتفائهن بالاسم الأول على أغلفة ألبوماتهن، من دون ذكر اسم النسب العائلي، خصوصًا أن بعضهن تلقى تهديدات بالقتل.
ويعرض بعض محال الكاسيت إنتاج المنقبات بأسماء مستعارة، غير أن ألبوماتهن تنتشر أكثر مع الباعة المتجولين وعلى الأرصفة، وتحظى بإقبال شعبي كبير، حسب تأكيد الباعة الذين قالوا إنهن حققن أرقام مبيعات عالية، خصوصًا من جانب سكان القرى.
ويرى الشيخ المرتضي بن زيد المحطوري - أحد علماء الزيدية في اليمن- والذي توفي مؤخرًا بانفجار مسجد بالعاصمة صنعاء أن المعاصي درجات، وأن غناء المنقبات «أقل ضررًا من العاريات، اللواتي يعرضن أجسادهن ويتمايلن للإغراء».
حاولنا أثناء إعداد هذا التقرير التواصل مع وزارة الثقافة اليمنية، إلا أن الأخ مدير إدارة المصنفات الفنية والفكرية عبد الله بداح رفض التصريح بشيء حول الموضوع، وكررنا المحاولة مرات عده في التواصل مع الأخ هشام علي وكيل الوزارة إلا أن هاتفيه كانا مغلقين.
aXA6IDMuMTM4LjM3LjQzIA== جزيرة ام اند امز