على رغم وجود انفصالٍ في الولايات المتحدة بين الكنيسة والدولة، كرّسه دستور البلاد «من أجل حماية الدين والضمير من التدخل الحكومي المفرط»
على رغم وجود انفصالٍ مؤسسي في الولايات المتحدة بين الكنيسة والدولة، باعتباره منتجاً ليبرالياً علمانياً جامعاً، كرّسه دستور البلاد «من أجل حماية الدين والضمير من التدخل الحكومي المفرط»، كان ثمة تيار ديني محافظ عريض شكّلته الثقافة البروتستانتية، وقد اتّجه نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى مزيد من التشدّد، في مواجهة الأفكار الليبرالية والعلمانية. وهذا ما أطلق جدالاً انقسم حوله الأميركيون، إلى عصريين وتقليديين، فشكل التقليديون الذين أكدوا سلطة الكتاب المقدس، باعتباره عالم الله المعصوم والمنزّه عن الخطأ، بداية الأصولية المسيحية المعاصرة.
تعزّز هذا الانقسام بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مع اشتداد الخصومة الأميركية - السوفياتية، حيث رُبط بين الدين والقومية مع بداية الحرب الباردة، فحذر عضو مجلس الشيوخ جوزف مكارثي، من مغبة «معركة نهائية وشاملة بين الإلحاد الشيوعي والديانة المسيحية»، فيما رأى المبشر البارز بيلي غراهام، عام 1949، «أن العالم منقسم إلى معسكرين، أولهما تحت العناية الإلهية، بينما الثاني يستمد إلهامه وتوجيهه وتشجيعه من الشيطان»!.
ضمن هذا السياق، استحضر المرشح للرئاسة ريتشارد نيكسون، استراتيجيته الانتخابية في 1968 و1972، والتي جاءت «خليطاً من العرق والدين والوطنية، لمناشدة الغالبية المسيحية من البيض، وتحديداً في الجنوب»! فالجنوب، وفقاً لاستطلاعات «غالوب» للرأي خلال 1947 – 1994، يؤمن ما بين 81 و93 في المئة من مواطنيه بوجود الجنة. وهو اعتقاد أكثر انتشاراً داخل المؤسسة العسكرية قياساً بخارجها.
هكذا يصبح مفهوماً لعب نيكسون على التناقضات العمودية للمجتمع والدولة، واستغلالها باستحضار خطاب حشد شعبوي يمنحه مشروعية سياسية للوصول إلى الرئاسة وتمرير أيديولوجيته في السياسة والاقتصاد، فكان أول عمل خطط له هو الانقلاب على المسار الذي سار عليه كلّ من كينيدي وجونسون، وبرامجهما الاقتصادية التي ترقى أصولها الى الثلاثينات وعهد روزفلت، والتي جاءت استجابة للكساد الكبير وتركّزت على ثلاث نقاط: إغاثة الفقراء والعاطلين من العمل، إنعاش الاقتصاد، وإصلاح النظام المالي، لمنع حدوث الكساد مرة أخرى.
وعلى نهج نيكسون سار رونالد ريغان في «استراتيجية الاستقطاب الإيجابي لشق جمهور الناخبين، فتمكّنت حملته من توحيد الحركة المحافظة التي ظهرت مطلع الثمانينات، وكانت منقسمة بين ثلاثة تيارات رئيسة: المحافظون الاقتـــصاديـــون والمحافـــظون الاجتماعيون والمحافظون الجدد»، وذلك عبر «ربط السياسة اليمينية، الدفاع القوي ومناهضة الشيوعية والتحرر الاقتصادي، بالدين المحافظ».
لقد مثّلت حقبة ريغان منعطفاً حاداً، تجلّى في مسألتين: الأولى، ترويجه الدين المحافظ داخل المجال العام، علماً أن ذلك يهيئ مناخات تدفع نحو تصدّع المجتمع، ما يُعتبر خروجاً عن القيم المسكونية للدين، التي شرعنها مؤسسو الدولة، والثانية محاربة دولة الرفاه الاجتماعي، بتبنّيه رأسمالية متطرفة تقوم على الليبرالية الجديدة.
طبعاً، ما كان لذلك أن يتحقّق لولا نجاح استراتيجيته الخارجية واستعادة المواقع التي خسرها جيمي كارتر إبان الحرب الباردة. ثم تمكّن جورج بوش الأب من الوصول إلى الرئاسة، وطبعاً جاءت حملاته الانتخابية صورة طبق الأصل عن حملات نيكسون وريغان، حيث استُحضرت القضايا الاجتماعية المسبِّبة للشقاق كأساس للحشد الشعبوي، مقابل تعمد تهميش تساؤلات جـــادة عن السيــاسة الصناعية والاقتصادية للدولة. وبالنتيجة، ارتفع الدين القومي أثناء إدارتي ريغان وبوش من 900 مليار دولار عام 1980، إلى 4،3 تريليون دولار في 1993. وبفضل هذه السياسات المتطرفة ثقافياً واقتصادياً، تحولت الدولة الأميركية من أكبر دولة دائنة في العالم إلى أكبر دولة مدينة!.
أمام هذه الأكلاف الباهظة، تغيّر مزاج الناخبين على نحو مؤثر، فأصبحت قضايا الوظائف والرعاية الصحية والتعليم أولوية تتقدم القضايا الاجتماعية، الأمر الذي ساهم في نجاح بيل كلينتون في انتخابات 1992.
وعليه، ما كان للمحافظين الجمهوريين النجاح في انتخابات 2000، لولا فضيحة لوينسكي، التي أرخت بظلالها على حملة نائبه أل غور، إذ استغلّ جورج دبليو بوش فضائح كلينتون وربطها بنائبه، للقول إنه «سيعيد الشرف والكرامة إلى البيت الأبيض». وبالفعل، فاز بوش ولكن بفارق ضئيل، في خضم حرب ثقافية انقسم حولها المجتمع ولم تمنحه سوى إجماع بسيط. غير أن هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، وحّدت الدولة خلف قيادته، فضخّ التطرف الإسلامي دماءً جديدة في شرايين المتطرفين الجمهوريين. وكانت حربا أفغانستان في 2001 والعراق في 2003، ما أدخل البلاد في ركود اقتصادي دفع بالناخبين مجدداً، وعلى وقع أزمة 2008، الى وضع المسائل الاقتصادية على سلّم أولوياتهم. هكذا تمكّن باراك أوباما من الوصول الى البيت الأبيض!.
اليوم، مع قيام تنظيم «داعش» وتبنّيه هجمات باريس المروّعة وضربه داخل الولايات المتحدة وتوعّدها بمزيد من الهجمات، فإننا أمام تطرّف أشد هولاً، استطاع إيقاظ اليمين الأوروبي فكيف باليمين الأميركي؟. لذك، ليس مستغرباً تقدّم دونالد ترامب في استطلاعات الرأي، طالما أن المحافظين يسيطرون على معظم مراكز وسائل صناعة الرأي!.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة