هل نعود إلى الفتنة المذهبية بين علىّ ومعاوية منذ 14 قرنا تقريبا؟ أم أن الصراع السعودى ـ الإيرانى ـ شبيه بحرب الثلاثين عاما فى أوروبا
هل نعود إلى الفتنة المذهبية الكبرى بين علىّ ومعاوية منذ 14 قرنا تقريبا؟ أم أن الصراع السعودى ـ الإيرانى ـ شبيه بحرب الثلاثين عاما الدينية فى أوروبا فى بداية القرن السابع عشر والتى انتهت بمعاهدة وستفاليا فى 1648 التى أنهت سيطرة الكنيسة وأسست للعلاقات الدولية المعاصرة مرتكزة على الدولة القومية؟
التصعيد فى الصراع السعودى ـ الإيرانى لم يكن مفاجأة، ولكن لن تكون هناك حرب مباشرة. ستستمر الحرب بالوكالة فى سوريا، فى اليمن.. سيتم احتواء هذا التصعيد ولكن هذا الصراع لن ينتهى تقريبا. حتى لو اتخذ صورة الصراعات المذهبية ـ وهو عنصر مهم فى تصوره وتسويقه، فإن الصراع جيوسياسى بالأساس.
من هنا أهمية التفكير والتخطيط فى إدارته والاستفادة من علم إدارة الصراع.
انتهت السعودية 2015 بتجمعات إسلامية: من الحلف الإسلامى إلى التحالف الاستراتيجى التركى. ولكن شهدت بداية 2016 إعدام 47 سعوديا، بينهم شيعى واحد: النمر، لم تعترض إيران على إعدام 46 فردا، واعتبرت إعدام «النمر» اضطهادا للشيعة فى السعودية بل وفى العالم أجمع، تصاعد الصراع بالهجوم على البعثات الدبلوماسية فى إيران، حيث ردت الرياض بقطع العلاقات التجارية والدبلوماسية، وتبعها فى القطيعة أو تخفيض التمثيل الدبلوماسى معظم دول مجلس التعاون، ودول أخرى مثل السودان أو سيراليون. وهكذا يبدأ العالم الإسلامى وهو فى قمة الانقسام والصراع، بل تدق طبول الحرب بين دولتين من أعمدة العالم الإسلامى.
ما الهدف؟ وما النتيجة؟
تشعر الرياض ـ والكثير من مقررى السياسة العرب ـ بأن إيران ـ الثورة والدولة ـ فى حالة توسع للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وهذا صحيح وليس مجرد إدراك أو تصور. فالعراق بعد الغزو أكثر وأكثر فى المعسكر الإيرانى، وسوريا لايمكن اتخاذ قرار بشأنها حاليا دون موافقة طهران، بل إن قواتها مع حزب الله تحدد المعركة على الأرض، وامتد النفوذ الإيرانى إلى اليمن لمحاصرة السعودية فى عقر دارها، إذن شعور الرياض بالحصار والخطر هو قائم على حقائق جيوسياسية وليس مجرد خيال. بالرغم من أن معظم الأجنحة فى داخل إيران تهدف ليس فقط للتوسع فى منطقة الشرق الأوسط، بل الحديث باسم العالم الإسلامى، فإن المعركة هى جيوسياسية وليست دينية استدعاء المذهب هو الغطاء، حتى لو تم تصويره وتسويقه واعتقد البعض أنه الأساس، المهم هو إذن كيفية استخدام كل الوسائل العلمية والعقلانية المتاحة لإدارة الصراع. هذا المجال أصبح علما قوى الأركان بمعاهده الأكاديمية ودورياته المتخصصة. الموضوع ليس هلاميا. ضيق المساحة يسمح لى بتأكيد نقطتين: كيفية حسن استغلال القوة المتاحة، وحشد التأييد.
1ـ على المستوى الدينى البحت، فإن لدى السعودية قوة ناعمة استثنانئية، استثنائية بمعنى الكلمة، أى لايمكن لأي دولة أو جماعة أن تنافسها على هذا المستوى. فالسعودية هى مهد الإسلام. ومكة والمدينة محفورتان فى السيكولوجية الجماعية عند المليار ونصف من المسلمين الذين يسكنون العالم من استراليا إلى الجنوب الأمريكى، ويتوجه الأتقياء منهم إلى مكة خمس مرات فى اليوم أثناء صلاتهم، بل كل آمالهم ـ مهما تكن التضحيات المالية ـ هى الذهاب مرة واحدة لهذا البلد من أجل الحج.
كما نرى هذه قوة ناعمة استثنائية بالمعنى الحرفى للكلمة، ويعطى الفرصة للسعودية لضمان المناصرة والحشد، ليس فقط من الدول الإسلامية وأجهزة القرار فيها، بل من داخل المجتمعات وقواعدها الشعبية.
2ـ العمل الجماعى إذن هو الأساس، لأن الصراع لايخص السعودية وحدها حتى ولو تم تصوير الأمر على أن الرياض فقط هى الهدف. فإيران تحتل مثلا ثلاث جزر إماراتية حتى قبل الثورة الإسلامية، كما أن وجود السعودية بمفردها يسهل استنزافها خاصة فى الفترة الحالية مع انخفاض أسعار البترول من أكثر من 120 دولارا للبرميل إلى أقل من 40 دولارا ـ أى أكثر من 75% والبترول هو من أهم مصادر الدخل، ولذلك اضطرت الرياض أخيرا إلى تخفيض الدعم بنحو 67%، وقد يكون لهذا القرارتأثيرات داخلية.. وعلى مستوى السياسة الخارجية، وبعد فترة من السلبية التى لم تعكس بالمرة إمكانات السعودية، تذهب الرياض حاليا تقريبا إلى النقيض ومحاولة التأثير فى الحرب الأهلية السورية وبالطبع بالعمل العسكرى فى اليمن عن طريق عاصفة الحزم.
بما إن الصراع مع ايران لن ينتهى غدا، حتى لو تم احتواء مرحلة التصعيد الحالية، فالمهم هو تجنب ما يسميه دارسو الصراعات الانكشاف الاستراتيجى, والأساس هنا هو التعبئة والاستغلال العقلانى لكل الإمكانات الداخلية والخارجية بمعنى صلابة الجبهة الداخلية وضمان العمل الجماعى على المستوى الدولى. ويبدو أنه على مستوى العمل الجماعى الدولى، فالتحسن مطلوب عن طريق التنسيق مع الحلفاء التى تستطيع السعودية الاعتماد عليهم، وذلك قبل إعلان القرار وليس بعده. فمثلا غداة إعلان الحلف الإسلامى، أعلنت بعض الدول التى تم ذكرها كأعضاء أنها لم يتم استشارتها قبل إدراك أسمائها.
3ـ ضمان التأييد الجماعى لايرتبط بالدول فقط، ولكن بالمجتمعات أيضا، خاصة فى زمن العولمة وقوة الشعوب وانتشار نفوذ الميديا الجديدة. فالعديد من الدول الصديقة ـ خاصة فى الغرب ـ قد لا تستطيع إعلان تأييدها الكامل بسبب تقاعس أو مقاومة بعض جماعات الرأى العام بداخلها. فمثلا يبدو أننا فى عالمنا العربى مازلنا غير مقدرين الاعتراض والإدانة ضد عمليات الإعدام لفرد واحد، فما بالك بما يبدو إعداما جماعيا. لقد ألغت بعض الدول الاسكندنافية وبعض الولايات الأمريكية عقوبة الإعدام، وفى العديد من الدول الغربية تم وضع قيود ومحاذير مشددة تقترب من الإلغاء. شعور العديد من جماعات الرأى فى هذه المجتمعات أنه ليس من حق أى حكومة أن تأخذ حياة أحد مواطنيها بهذه الطريقة، حتى ولو كنا متأكدين مائة فى المائة من إدانته، فما بالك إذا ثبتت براءته بعد ذلك أو اكتشفنا خطأ قانونيا، ولكن الأساس هو مقاومة عملية القتل هذه، وشعورهم ناحية الإعدام يشبه تقريبا حالة الإدانة والتقزز التى يشعر بها معظمنا تجاه ما تفعله داعش مثلا. وهم فى هذا لايفرقون بين السعودية ـ مصر، أو أى دولة أخرى. وقد بعث إلىّ أحد طلبتى السابقين من الأجانب ـ وهو من أكبر المتعاطفين مع القضايا العربية ـ إحصائية تقول إن السعودية أعدمت 95 فردا فى 2014، ونحو 121 فردا فى 2015 وقبل الإعدامات الأخيرة، بينما أعدمت إيران 281 فردا فى 2014 وأكثر من 700 فرد فى 2015. فى هذا المضمار على الأقل. تفوقت إيران على السعودية فى التشكيك فيما ينادى به الدين الاسلامى من رحمة، بل تشجيع الإسلاموفوبيا.
هذه النقطة الأخيرة تؤكد أن الخاسر الأكبر ـ مهما تكن المكاسب المؤقتة لأحد الطرفين ـ هو العالم الإسلامى ككل وصورته فى العالم، أى بدلا من استخدام طاقة هذين العملاقين الإسلاميين فى الدفاع عن صورة الإسلام فى وقت ترتبط هذه الصورة على مستوى معظم شعوب العالم بداعش والهجمات الإرهابية، هو إذن فخ إهدار للطاقة الذى يلعب فى يد الخصوم والأعداء. هل نتذكر مثلا نظرية الاحتواء المزدوج أو المتبادل؟ لقد طور هذه النظرية مارتن إنديك ـ صهيونى أمريكى من أصل أسترالى عمل سفيرا سابقا للولايات المتحدة فى إسرائيل، لقد طور نظريته هذه فى أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية فى ثمانينيات القرن الماضى، وهو العمل على ترك هاتين الدولتين فى الحرب أطول مدة ممكنة وصب الزيت على الحريق كلما بدا خموده لكى تنهك وتدمر كل دولة الأخرى. أكثر منها إذن الاحتواء المتبادل فلنسميها نظرية الاستنزاف أو الإنهاك المتبادل، ربما حتى الموت، بينما الخصوم فى طمأنينة، واليمن وسوريا ـ المدمرتان ـ أصبحتا كارثة إنسانية، النقطة الرئيسية إذن أنه طالما هو صراع لايبدو أنه سينتهى قريبا حتى مع احتواء مرحلة التصعيد الحالية، فإن اتخاذ القرار يجب أن يكون مخططا عقلانيا من أجل المدى الطويل بدلا من أن يكون مندفعا وقصير المدى فى تصوراته، أى استراتيجيا وليس تكتيكيا فقط، وياحبذا لو استند المقرر السعودى على إمكانات بلده العلمية، مثل المعهد الدبلوماسى فى الرياض أو مركز الخليج للأبحاث فى جدة، فمثلا ورشة عمل مغلقة أو عملية محاكاة ستساعد فى هذا التخطيط طويل المدى واستراتيجية النفس الطويل، فالصراع جيوسياسى ممتد حتى لو تم تصويره وتبسيطه فى صورة مذهبية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة