منذ سنوات وأثناء زيارتي للقاهرة، دخلت في مناقشة مع شخص من ذوي التوجه الإسلامي، كان الحديث حول عمليات بناء وترميم الكنائس في مصر
منذ سنوات وأثناء زيارتي للقاهرة، دخلت في مناقشة مع شخص من ذوي التوجه الإسلامي وإن لم يكن له ارتباط تنظيمي، كان الحديث حول عمليات بناء وترميم الكنائس في مصر وما يثار حولها من مشاكل مستمرة، أدهشني أن الرجل الذي بدا معتدلًا كان متحفظًا في الأمر، وينكر على المسيحيين هذا الحق؛ لأنه، كما يرى، يتعارض مع التعليمات الإسلامية التي يعتقد أنها لا تهدم الكنائس، لكنها في الوقت نفسه لا تسمح بتجديدها أو ببناء كنائس جديدة، لم أكن في مجال الدخول في مناقشة حول الأصل الديني لهذا الكلام الذي يؤمن الكثيرون بصحته، لكني تحدثت إليه بمنطق العقل وسألته: ولكن أين يذهب الملايين من المسيحيين؟ وكيف يمكن أن تقول، إن الإسلام يسمح بحرية العبادة والعقيدة إذا كنت تمنع عنهم هذا الحق؟
لكن الرجل بدا متمسكًا بآرائه التي يعتقد أنها مستمدة من الدين في دولة إسلامية ذات أغلبية مسلمة، وبالتالي لابد أن تخضع لقواعدها الأقليات الأخرى، مضيفًا: أليست هذه هي الديمقراطية التي تنادون بها؟
هنا طرحت عليه الأمر بحكم تجربتي في أمريكا، وقلت له: إننا جالية مسلمة تمثل أقلية صغيرة من المهاجرين في الولايات المتحدة ذات الأغلبية المسيحية، أليس من حقهم بنفس المنطق منع المسلمين من إنشاء المساجد أو ترميمها، ولا يهم أين يذهب المسلمون للصلاة، فعليهم الخضوع لقواعد الأغلبية المسيحية. هنا فقط انتبه الرجل إلي أن منطقه ليس فقط منافيًا للعقل، ولكنه أيضًا ضار بالمسلمين والإسلام الذي يعتقد أنه يدافع عنه، وقال في نبرة تراجع منكسرة، إن من الممكن التفاهم حول الأمر مع المسيحيين للسماح لهم بما يطلبون في إطار القانون.
تذكرت هذا الحوار وأنا أتابع كلمة الرئيس السيسي في الكاتدرائية في احتفالات أعياد الميلاد، والتي اعتذر فيها عن التأخير في عمل الترميمات والإنشاءات المطلوبة للكنائس، ووعد أن يتم ذلك هذا العام، وهو أمر طيب، لكني أتصور أن الاعتذار لا يجب أن يكون عن العام الماضي أو الذي سبقه فقط، بل عن سنوات طويلة تعاملت فيها الأغلبية المسلمة مع الكنائس باعتبارها مشكلة تتسبب في الكثير من الصراعات، وهي مشكلة لاتزال تعيش إلي اليوم خاصة في القري والنجوع، غير مدركين أنهم بذلك يخالفون التعاليم الإسلامية ذاتها، لكنه الشعور القبلي الذي نعيشه في كل شيء، سواء في انتماءاتنا السياسية أو النادي الذي نشجعه أو الدين الذي ننتمي إليه، فهي في كل الأحوال مشاعر متطرفة لا تعترف بحق الآخر، وتعتبر أي مكسب له خسارة لنا، أظن الأمر ذاته يمكن أن ينطبق على نسبة من المسيحيين؛ لأنها في نهاية الأمر قضية ثقافة عامة مسمومة يتنفسها الجميع مسيحيون ومسلمون، لكن اللوم هنا يتجه بشكل أكبر نحو الأغلبية، كما هي القاعدة في مثل هذه الأمور، ومن الجيد أن سياسة الدولة الرسمية تتجه الآن لتصحيح هذا الخطأ، وليس الانصياع لنزعات الشارع التي لا تعترف إلا بشعار: (أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب).
لكن من الضروري التنبيه هنا إلى أن مشكلة الكنائس هي في الأساس تعبير عن مرض أكبر مرتبط بمفهوم الأقليات بشكل عام، وكيفية التعامل معهم واستيعابهم في إطار تعددي، فالكثيرون مثل صاحبنا الذي ذكرته يتصورون أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية وكفي، وبالتالي لابد للأقليات أن تنصاع لحكم الأغلبية في أي شيء، وهذا مفهوم منقوص، فالأهم من الديمقراطية هو التعددية، حيث يمثل الحفاظ على حقوق الأقليات المقياس الأول لمدى نجاح أي نظام سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا.
لا يعرف الكثيرون مثلًا أن في أمريكا ما يسمى بالـ affirmative action وهو قانون يعطي الأقليات حقوقًا خاصة ونسبًا في القبول بالجامعات بشروط أسهل، اعترافًا بضرورة مساعدتهم، فمن المهم التأكيد علي توعية الناس وتنوير الرأي العام بهذه القضايا، لكن الأهم هو أن يكون القانون واضحًا وصارمًا، فمثلا يعاني المسلمون في أمريكا هذه الأيام من النظرة السلبية لهم لدي قطاعات كبيرة من الأمريكيين بسب ما يقع من عمليات إرهابية، وقد زادت المشاكل والاعتراضات من قبل السكان في بعض المناطق ضد إنشاء مساجد بعد أن أصبحت من وجهة نظرهم مرتبطة بالتطرف ونشر الإرهاب، هنا يدخل القانون الذي يفرض قواعد عادلة للجميع، فعندما أراد بعض المسلمين في نيويورك إقامة مسجد قرب مركز التجارة العالمي بعد تعرضه للانهيار في هجمات ١١ سبتمبر، ثار كثير من الناس هنا وطالبوا بنقل موقع المسجد مراعاة لحساسية المكان، لكن القانون وعمدة المدينة في ذلك الوقت مايكل بلومبرج وهو يهودي كانا مع المسلمين الذين تمكنوا من استئناف العمل في مسجدهم، المهم هنا أن تكون هناك قواعد واضحة وأن تطبق بشفافية وعدالة، عندها سوف يخضع لها الجميع راضين حتى لو كانت ضدهم، فنحن لن نستطيع إنهاء مشاعر العنصرية والتعصب لدى كل الناس، لكن المهم هو تحقيق دولة القانون الحقيقية، فهذه هي ضمانة الاستقرار ليس فقط؛ لأنها تحقق العدالة، ولكن أيضًا لأنها الحل الأمثل لقضايا الأقليات بأبعادها المختلفة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة