كانت هذه التصريحات والتلميحات التي جاءت على لسان أكثر من مسؤول أميركي كافية للحكم على تغير السياسية الأميركية تجاه المنطقة
أظهرت السنوات القليلة التي سبقت «الربيع العربي» المشؤوم وما تلاها، تغيراً واضحاً في سياسة الولايات المتحدة، الحليف التقليدي لدول الخليج العربية. وكانت الأدوار المشبوهة التي مارستها دوائر أميركية عدة واضحة للعيان في ملفات كثيرة، بدءاً بالنفخ في نار فتنة «الربيع العربي» إلى التقاعس عن أخذ موقف جاد ومؤثر تجاه «داعش»، مروراً بالتغير الجذري تجاه الملف النووي الإيراني الذي أدى في نهاية المطاف إلى توقيع الاتفاق مع إيران، وليس انتهاء بالموقف الغامض والمتناقض من تدخل إيران في اليمن ومساندتها الحوثيين الذين انقلبوا على الشرعية فيه.
يسرد الأميركيون حججاً وذرائع كثيرة لمواقفهم وتصرفاتهم، التي فاجأت حلفاءهم العرب، فتارة يبررون عدم تدخلهم ميدانياً ضد «داعش» في العراق وسورية بأن عدم تحقيق الولايات المتحدة النتائج المرجوة من التدخل العسكري في العراق وأفغانستان لا يزال يرخي بظلاله على أي مهمة خارجية للقوات الأميركية. وتارة يدّعون أن الاتفاق النووي الأخير مع إيران في شأن برنامجها النووي يصب في مصلحة الاستقرار في المنطقة، لأنه يساهم في تحجيم إيران واحتوائها وتعزيز الرقابة على أنشطتها النووية! فضلاً عن أن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تملك عناصر التوازن العسكري مع إيران، كما تمتلك من عناصر «القوة الناعمة» ما تتفوق به على إيران، وفقاً للرؤية الأميركية ذاتها.
كانت هذه التصريحات والتلميحات التي جاءت على لسان أكثر من مسؤول أميركي كافية للحكم على تغير السياسية الأميركية تجاه المنطقة، وميلها نحو فك الارتباط مع الشرق الأوسط، أو تقليله في أحسن الأحوال، وبخاصة بعد تراجع الاعتماد على نفط منطقة الخليج، فضلاً على الرغبة في خلط أوراق المنطقة، في سعي إلى إيجاد نظام توازن قوى جديد، وإن تطلب منها ذلك الحوار والتعامل مع التنظيمات المتطرفة في المنطقة.
تلقفت إيران، التي تسعى منذ قيام الثورة الخمينية فيها إلى التوسع إقليمياً وفرض هيمنتها على المنطقة، هذا التغير في المزاج الدولي وبدأت تطرح نفسها بمثابة شريك مهيمن أو لاعب قوي في المنطقة، من خلال تسويق نفسها بصفتها دولة قوية ومؤثرة تملك أوراقاً مهمة في المنطقة، بل إنها تحاول إقناع العالم بأن توقيع الاتفاق على برنامجها النووي من شأنه أن يحل الأزمة الخطرة المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، ويعطي زخماً قوياً لجهود مكافحة الإرهاب، على حد زعم وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف في مقالته الأخيرة التي نشرها في «نيويورك تايمز»!
وأدركت دول الخليج، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الفراغ الذي حصل في المنطقة بعد أحداث «الربيع العربي» التي تسببت في تراجع الدور الإقليمي لمصر وزيادة النفوذ الإيراني في سورية والعراق واليمن، فقامت بجهود حثيثة لملء الفراغ كي لا تبقى الساحة مفتوحة للأطماع الإيرانية التي لا تزال تتسع يوماً بعد يوم، مستغلة تغيّر السياسات الغربية في المنطقة.
واستطاعت دول الخليج العربي في السنوات الأخيرة التأقلم مع متغيرات السياسة الدولية وتحولات بوصلة المصالح الأميركية، التي باتت أكثر اهتماماً بمناطق أخرى، فخاضت دول الخليج معارك ديبلوماسية وعسكرية ناجحة، فكانت إنجازات التحالف العربي في «عاصفة الحزم» و «إعادة الأمل» في اليمن رسالة قوية إلى كل من شكك في قدرة دول الخليج على الحفاظ على أمنها القومي بقدراتها الذاتية، ولاسيما أن هناك من يظن أنها تخشى أو تتجنب الصدامات مع بعض القوى الإقليمية في المنطقة والرد على تماديها، أو أنها تعتمد كلياً على حليفتها الولايات المتحدة في الحفاظ على أمنها القومي.
وفي حراك ديبلوماسي لا يقل شجاعة عن التدخل العسكري في اليمن، تعاملت المملكة العربية السعودية، ومعها معظم الدول الخليجية والعربية والإسلامية، بحزم مع إيران بعد تماديها الذي وصل إلى حد الوقاحة في الأيام الأخيرة، حين أعطت لنفسها حق التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة بعد إعدام نمر النمر، فكانت تصريحات المسؤولين الإيرانيين تصعيدية إلى أبعد الحدود، وترافقت مع تظاهر عدد من الإيرانيين أمام السفارة السعودية في طهران وإقدامهم على حرقها، وكذلك القنصلية السعودية في مشهد، على مرأى من الشرطة الإيرانية.
كان الحزم الذي تعاملت به السعودية مع التصرفات الإيرانية الأخيرة، والتأييد العربي والإسلامي الواسع لمواقفها ضرورياً، لأنه يعطي رسالة واضحة لإيران بأنه لم يعد مسموحاً لها العبث بالمنطقة، وأن الأمن العربي، والخليجي خصوصاً، خط أحمر لا يمكن المساس به. وربما لم تتوقع إيران مثل هذا الحزم في التعامل، وفوجئت بالدعم الذي حظي به الموقف السعودي، والذي جعل السحر ينقلب على الساحر، كما يقولون.
ولعل أكثر ما أحبط إيران أن العقلاء من الشيعة العرب باتوا يدركون أن إيران، بعد أن حُشِرت في الزاوية، تحاول اللعب بهم كورقة ضغط وابتزاز في إطار سياستها الطامعة بالهيمنة، مدعية أنها خير من يدافع عن حقوقهم، وهم لن يسمحوا لإيران بأن تقتلعهم من أوطانهم وأن تجعل منهم دمية في يدها، لأنهم يدركون جيداً أن إيران ستتخلى عنهم في أي مفاوضات تخوضها من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وهذا الموقف الإيجابي برأيي يجب أن يقابل من الدول والشعوب العربية بمزيد من الاهتمام بالمحافظة على الشيعة العرب، فهم مواطنون عرب بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
تحاول إيران منذ سنوات أن تعرض عضلاتها في أكثر من مجال، فتتغنى تارة بإرثها الحضاري، وتباهي تارة بمواردها البشرية، وتتحدث عن قوتها العسكرية وصواريخها الباليستية بزهو وخيلاء، ولكنها تكتشف اليوم أن ذلك الإرث كان ومضى، ولم يعد له وجود، وأن كثرة العدد في الموارد البشرية ليست المقياس في ظل غياب التنمية الحقيقية وارتفاع مستوى البطالة والإحباطات الكثيرة التي يعانيها شبابها، والتي دفعت بكثير منهم إلى تعاطي المخدرات، وتكتشف كذلك أن جاراتها من دول الخليج تتفوق عليها في معظم صنوف الأسلحة. كل ذلك يساهم في مزيد من الإحباطات لإيران التي تواجه حالياً أزمات على أكثر من صعيد، فالنفط الذي يعد مصدر دخلها الأساس ليس في أحسن أحواله، والمتشددون الإيرانيون يصطدمون اليوم بطموحات الشعب الإيراني الذي يتوق إلى التنمية والرفاه ورفع مستوى الاقتصاد، بعد قطيعة طويلة مع العالم كله، ومن المؤكد أن الصدام مع السعودية والخليج لا يخدم هذه الطموحات، وبالتالي فإن ما ستكسبه إيران من فك الحصار الغربي عليها ستخسره بسبب مقاطعتها خليجياً.
إيران التي تقف اليوم أمام مرآة الواقع، وتفاجئها الصورة حين تكتشف أنها «نمر من ورق»، وأنها لم تعد «البعبع» الذي يخيف جيرانه، لربما -وإمعاناً في صلفها- لن تتوقف عن محاولات تصدير الثورة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، كما أنها قد تلجأ بسبب الموقف الحازم من السعودية والخليج والدول العربية إلى المماطلة، وربما التصعيد إعلامياً، والهرب إلى الأمام، أملاً في حفظ ماء الوجه، أو ربما تكتفي بحفظ الملف في أدراجها الديبلوماسية وتنتظر حتى يذوي ويموت من تلقاء نفسه.
بغض النظر عن طبيعة التصرف الإيراني، فإننا لم نعد نريد من طهران تطمينات كلامية فقط، بل أفعالاً ملموسة، في مقدمها احترام السيادة الخليجية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وسحب «الخلايا النائمة» التي تهدد بها، ووقف قنواتها المحرضة على العرب والمؤججة للصراعات الطائفية، فضلاً عن قضيتين رئيسيتين هما سيادة البحرين والجزر الإماراتية المحتلة.
على دول الخليج الإصرار على ألا تكون هناك حلول موقتة أو جزئية مع إيران، وأن تحرص على حل الموقف بحزم من خلال تصعيد الخطوات وحشد المواقف العربية والإسلامية والدولية حتى ترضخ إيران وتوافق على تسوية شاملة واضحة تتضمن كل النقاط السابقة، وما لم يقم العرب بتلك الخطوات، وهم قادرون اليوم، فسيشعرون بالندم لأنهم أضاعوا فرصة لا يصح التفريط فيها، وربما يكلفهم ذلك أثماناً باهظة مستقبلاً.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة