أعطت الثورة الإسلاميين عموما والإخوان خصوصا ثلاثة مكاسب انتظرتها الحركة الإسلامية طويلا
عشية تنحى مبارك كانت كل الفضائيات المحلية والعربية والدولية تحتفل بنجاح الثورة المصرية، ودارت الحوارات فى معظمها حول «من يخلف مبارك؟»، كان السؤال نفسه يتردد فى المحافل الأكاديمية وفى الأروقة السياسية، وكانت الإجابات فى معظمها تذهب لصالح الإسلاميين بشكل عام وجماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص. الحقيقة أن معظم الندوات والمؤتمرات والكتابات الأكاديمية، فضلا عن الاجتماعات السياسية بالإضافة إلى عدد من مقالات الرأى فى الأشهر القليلة التى تلت ١١ فبراير ٢٠١١ ــ لم تناقش كثيرا مسألة سقوط النظام أو استبداله، بقدر ما ناقشت مسألة خلافة مبارك، وعلى الرغم من أن هذا النقاش قد يُعزى إلى محدودية الأفق وسوء التقدير بالاعتقاد أن سقوط مبارك يعنى سقوط النظام، فإنه يعبر فى جانب منه أيضا عن انتهازية السياق الإقليمى والدولى الذى دفع المشهد المصرى للبحث عن «رئيس» باعتبار أن شغل منصب الرئيس هو الهم الأكبر للثورة، ولكنه فى الواقع كان الهم الأكبر للكثير من الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين لا يطيقون كثيرا معادلات ثورية غير مستقرة وشغلهم الشاغل انصب فقط على شغل مقعد الرئاسة الشاغر فى مصر.
كانت هذه الأشهر القليلة التى تلت سقوط مبارك حاسمة فى تشكيل انحيازات جماعة الإخوان المسلمين ــ الفاعل الإسلامى الأبرز فى مصر والعالمين العربى والإسلامى ــ حيث تركت الجماعة مقاعد الثورة سريعا للبحث عن مقاعد السلطة منشغلة بالسؤال نفسه: «من يخلف مبارك؟»، وعلى الرغم من أن السياسات الأولية للجماعة قد عبرت عن وعى بتعقد المشهد المصرى وتخطيه لمجرد شغل مقعد شاغر فى الرئاسة، وهو ما عبرت عنه الجماعة فى قراراتها الأولية فى الإعلان عن عدم الدفع بمرشح رئاسى والترشح على ٢٥٪ فقط من مقاعد البرلمان ــ فإنها تراجعت سريعا فى طريق البحث عن مقعد مبارك.
***
أعطت الثورة الإسلاميين عموما والإخوان خصوصا ثلاثة مكاسب انتظرتها الحركة الإسلامية طويلا:
أولا: أعطت الثورة الإخوان شرعية سياسية وقانونية للوجود والحركة والتنظيم، فحصلت الجماعة على شرعية الوجود من خلال إعلانها كجمعية رسمية وإعلان حزب الحرية والعدالة حزبا سياسيا معبرا عن الجماعة، لتعمل الأخيرة مجتمعيا وسياسيا بشكل رسمى بعد عقود من «الحظر» والسرية للمرة الأولى فى تاريخ الجمهورية.
ثانيا: مكنت الثورة الجماعة من العودة للعمل ضمن الجماعة السياسية الوطنية، وهو اللفظ المائع الذى كان ومازال يستخدم ليعبر عن مجموعة الفاعلين السياسيين الرسميين والوطنيين، وهو ما حرمت الجماعة منه طويلا إلى أن حصدته أخيرا تدريجيا بالعمل مع قوى التغيير المجتمعى والسياسى حتى نجحت الثورة فى الإطاحة بمبارك والحزب الوطنى، وتم اعتبار الجماعة ضمن قوى التغيير قبل أن تدب الخلافات مجددا بين قوى المعارضة الليبرالية واليسارية من ناحية والإسلامية من ناحية أخرى.
ثالثا: وصلت الجماعة لمقاعد الحكم للمرة الأولى من خلال الأكثرية فى مجلس الشعب والأغلبية فى مجلس الشورى ثم أخيرا بالوصول إلى مقعد رئاسة مصر.
***
أين تقف الجماعة الآن وبعد خمس سنوات من الثورة المصرية؟
طرأت على الجماعة تغيرات كبيرة للدرجة التى دفعتها إلى مرحلة أكثر سوءا من المرحلة التى كانت تقف عليها فى الثمانينيات وحتى ٢٠٠٥، فضلا عن الفترة من ٢٠٠٥ إلى ٢٠١١ بالطبع:
ــ أولا: لم يفقد الإخوان السلطة فقط ولكنهم خسروا سريعا الشرعيتين السياسية والقانونية، فتم إعلان الجماعة إرهابية لتتخطى بذلك مرحلة «المحظورة» التى كانت تميزها وقت مبارك، كما تم حل حزب الحرية والعدالة، بل وتعرض معظم قيادات الصف الأول فضلا عن الصفوف الوسطى إلى القتل أو الاعتقال والمنع المستتر أحيانا والصريح فى أحايين أخرى من ممارسة السياسة.
ثانيا: لم يفقد الإخوان فقط السلطة، ولكنهم فقدوا مقاعدهم وسط «الجماعة الوطنية» بحيث لم يعد يتم اعتبارهم، حتى بواسطة التيارات غير الإسلامية التى وقفت معترضة على فض رابعة وأصبحت معارضة للنظام السياسى الحالى، كحليف محتمل للعمل الوطنى المعارض الآن أو مستقبلا.
ثالثا: فقد الإخوان أيضا مقعد قيادة تيار الإسلام السياسى الذى ظل يميزها لعقود والتى عضدته فى الفترة من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٣، فبعد انهيار «تحالف دعم الشرعية» خسر الإخوان القدرة على التنسيق أو التحالف، فضلا عن القيادة والزعامة للتيارات الإسلامية الأخرى التى دفعت جميعا ثمن أخطاء الإخوان فى الحكم فتعرضت للقمع والمنع والحظر فى معظمها، بل إن المثير للدهشة أن حزب النور المؤيد لترتيبات ٣٠ يونيو و٣ يوليو والذى يعد حليفا للسلطة الحالية قد دفع الثمن هو الآخر بخسارة مقعده المميز كثانى أكبر فاعل إسلامى فى الفترة من ٢٠١١ و٢٠١٣، حيث تم تحجيمه هو الآخر ورفضه من قبل باقى التيارات السياسية المؤيدة للثلاثين من يونيو، فضلا عن التضييق عليه من قبل السلطة حتى أضحى الحزب لا يمتلك سوى نسبة لا تتعدى ٢٪ من إجمالى مقاعد البرلمان الحالى، لتدفع كل التيارات الإسلامية دون استثناء ثمن فشل الإخوان وإن كان لم يملأ الفراغ الذى تركته الأخيرة أى فاعل إسلامى ولا يبدو أن هذا سيحدث فى الأجل القريب.
رابعا: بعد خمس سنوات أيضا انكشف الخواء السياسى والفكرى للجماعة، فالشعارات لم تترجم إلى سياسات، المشاريع المعلن عنها لم تكن سوى أوهام، وباستثناءات محدودة للغاية، لم تطرح الجماعة أى كفاءات تذكر سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، أو ثقافيا، فبدت الجماعة خلال الأشهر التى حكمت فيها مصر كجماعة متخمة بالموظفين يقودهم شيوخ خارج تاريخ وجغرافية مصر المعاصرة، وهكذا فقدت الجماعة أهم رهان افتراضى كان يداعب خيال العامة وكان يعطى الجماعة دائما فرصة افتراضية للتواجد المستقبلى ألا وهو افتراض «ما تيجى نجربهم ونديهم فرصة»! الآن وعلى الرغم من سوء الأوضاع وتعثر السلطة الحالية بوضوح، فإن المزاج الشعبى فى تقديرى لا يميل إلى إعطاء الإخوان هذه الفرصة مرة أخرى.
خامسا: كان الانطباع العام عن جماعة الإخوان حتى وقت قيام الثورة هى أنها جماعة «غير عنيفة»، برجماتية، تلعب سياسة بقواعد السياسة وتتفاهم مع أجهزة الدولة إذا ما تطلب الأمر للحصول على بعض المكاسب السياسية، لديها قدرة على تحمل بعض الضربات المحسوبة خصوصا فى عصر مبارك الذى أمم لفترة طويلة العمل النقابى بسبب سيطرة الإسلاميين عموما والإخوان تحديدا. صحيح أن تاريخ الجماعة وعلاقاتها بالعنف مختلف عليه، وهناك مؤشرات بالفعل أنها قد لجأت له فى مرحلة تاريخية مبكرة قبل إنشاء الجمهورية، لكن التاريخ الحديث كان يشهد تواجدها السياسى والنيابى فضلا عن الدعوى والأهلى السلمى، الآن وبعد ٥ سنوات عادت الجماعة فى ذهنية العامة لمربع العنف، بغض النظر عن حقيقة ارتباط الجماعة بأحداث العنف هنا أو هناك، إلا أن قطاعا من الشعب أصبح بالفعل مقتنعا تمام الاقتناع أنها «جماعة إرهابية»، هذا قطعا قبل أن يشهد العام الأخير اعترافات واضحة من بعض أنصار وقيادات الجماعة بحتمية اللجوء للعنف بل وتأصيل ذلك العنف شرعا، بعد إشارات ضمنية إلى عدم استبعاد الأساليب العنيفة مند يوليو ٢٠١٣.
سادسا وأخيرا: وبعد خمس سنوات من الثورة فإن أكبر خسائر الجماعة كانت ذلك التفجير الداخلى الذى حدث للجماعة بعد الضربات المتتالية من قبل أجهزة الدولة التى جيشت كل أدواتها للتخلص من خصمها التقليدى بالضربة القاضية. العام الأخير تحديدا شهد تفككا واضحا للجماعة لم يقتصر على الخلاف حول وجهات النظر أو الانقسام حول اللجوء إلى العنف من عدمه، ولكنه وصل إلى خلاف حول «شرعية» الحكم داخل الجماعة نفسها بين فريقين يدعى كل منهما امتلاك تلك الشرعية، وهى نهاية مأساوية لم يكن ليتوقعها أشد المتشائمين حول مصير الجماعة عشية تنحى مبارك قبل خمس سنوات.
***
نتساءل الآن وبعد فوات خمس سنوات من الثورة: هل تمت إعادة هندسة التاريخ أخيرا وانتهت جماعة الإخوان المسلمين إلى الأبد كما خططت لذلك الدولة بوضوح فى يوليو ٢٠١٣ وما تلاه؟ الحقيقة أن كل المؤشرات تقول إن التاريخ لم يتم إعادة هندسته وإنه فقط يعيد نفسه. فالدولة لجأت لنفس أساليب الخمسينيات والستينيات للتخلص من الخصم الإخوانى، ضربات قوية ومتتالية ولكن تعوزها المهارة، وتعوزها القوة الناعمة والأهم تعوزها السياسة! فالدولة لا تجد سوى الأساليب الأمنية، وهى كالعادة أساليب لديها قوة تدميرية مؤقتة ما تلبث أن ينتهى مفعولها بعد فترة، كما أن ضعف الدولة الواضح أمام ظروف سياسية واقتصادية وأمنية غير مستقرة لن يجعلها قادرة على محو الإخوان من التاريخ حتى لو أرادت لذلك وخططت له. نحن أمام مرحلة انتقالية طويلة، سيستمر الإخوان فى الخسارة والنزيف فيها لفترة معتبرة قادمة، ولكن خواء المشهد من السياسة ومن المهارة ومن الحنكة، فضلا عن ظروف الإقليم والدولة غير المستقرة، وعدم وجود فاعل سياسى إسلامى آخر يملأ فراغ الإخوان الذى ستحتاج الدولة أن تملأه آجلا أو عاجلا، من شأنه أن يساهم فى تغيير المعادلات مستقبلا، لا لأوضاع أفضل، ولكن لأوضاع مكررة تاريخيا لتستمر قواعد الجمهورية التى أسسها ناصر لفترة زمنية معتبرة!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة