لماذا امتلأت سينما «زاوية» عن آخرها ليلة العرض الأول لفيلم «برة فى الشارع»؟ كان هناك من حجز مسبقا بواسطة الإنترنت
لماذا امتلأت سينما «زاوية» عن آخرها ليلة العرض الأول لفيلم «برة فى الشارع»؟ كان هناك من حجز مسبقا بواسطة الإنترنت، ومن اصطف فى الطابور لكى يحصل على تذكرة، حتى لو فى الصف الأول أو أمام العمود الذى غطى نصف الشاشة، لكنه حرص على مشاهدة الفيلم الذى أخرجه الشابان، فيليب رزق وياسمينة متولى، وأنتجه مصطفى يوسف، عن حكايات العمال مع الخصخصة والإدارة والأمن. وهو عمل يتمرد على القوالب والتصنيف، فلا هو تسجيلى ولا روائى بالشكل التقليدى، لا ديكور، لا موسيقى، لا ممثلين محترفين، لأن عمالا حقيقيين هم الذين قاموا بالأداء بعد تدريبهم على المسرح لنحو عشرين يوما. اختار كل واحد منهم الدور أو مجموعة الأدوار التى سيؤديها تباعا، وشاركوا فى ارتجال وتطوير الحوار، فظهر الفيلم فى صورته الأخيرة متأرجحا بين السينما والمسرح.
«برة فى الشارع»، كناية عن طرد العمال بعد الخصخصة والرغبة فى التخلص منهم، يذكرنا بأفلام السينما النضالية التى ظهرت حول العالم فى أعقاب ثورة مايو 1968 فى فرنسا، عندما دخلت الكاميرات والميكرفونات إلى المصانع للتعبير عن مشكلات العمال بصدق ومباشرة، بعيدا عن جماليات السينما التقليدية. أرادت أن تعطى لهم الكلمة، وفى بعض الحالات جعلتهم هم من يصورون أفلاما عن أنفسهم. واستمرت هذه النوعية من الأفلام النضالية المرتبطة بقضايا تحرر المجتمع بعماله ونسائه ومهاجريه وناشطيه إلخ حتى مطلع الثمانينيات، بل تكونت خلال هذه الفترة عدة ائتلافات ومجموعات فنية مستقلة أخذت على عاتقها الترويج لمثل هذه الأفكار والتصدى لمشكلات الذين لا يظهرون عادة على الشاشات.
***
نحن إذا هنا فى مصر بصدد إعادة إحياء تراث مايو 68 واستلهام تجارب فرنسا وغيرها خلال تلك الفترة الثورية، وذلك منذ يناير 2011. فنانون مستقلون يشكلون كيانات صغيرة وائتلافات وشركات إنتاج محدودة الإمكانات، لتقديم أفلام خارج الإطار المعتاد، وخارج ثنائية «حلو ووحش»، لكى يفتحوا مجالا للنقاش، ويا حبذا لو امتد هذا النقاش إلى خارج دور السينما، فتعرض أفلامهم فى الشارع أو الغيط أو المصنع إلى ما غير ذلك، حتى يصل الكلام إلى أكبر عدد من الناس. هو نمط أعمال يمكن إدراجه حاليا تحت مسمى «سينما المجتمع المدنى» التى غالبا لا تكون ممتعة فنيا، بل قد تثير سأم أو حنق البعض أحيانا، خاصة من هم خارج هذه الدوائر، لكنها تؤرخ لمرحلة ما بعد الميدان. وبالتالى هى تلقى حفاوة ممن كانوا فى «التحرير» ومن جاورهم أو من شابههم، فيجتمعون فى ليلة عرض سينمائى بشهر يناير، فى وسط البلد. وكلما ضاقت المدينة والسلطة بهم، وكلما ضاقت دوائرهم، ازداد تلاصقهم لتقديم رؤيتهم للأحداث، حتى لو ظهروا وكأنهم فى واد آخر، بعيدا عن دنيا البرلمان الذى عقد أولى جلساته، مصادفة، ليلة العرض الأول لفيلم ياسمينة متولى وفيليب رزق.
نمشى فى الشارع فنجد عامة الناس على المقاهى يتابعون جلسة البرلمان، ثم ندلف إلى الحارة السد حيث توجد سينما «زاوية» فنلاحظ تجمع الشباب وبعض المثقفين، وهم ينتظرون دورهم للدخول إلى العرض. وبعد الفيلم يدور النقاش، كعادة سينما الأفلام النضالية، يتساءل الحضور حول إمكانية عرض الفيلم فى المصانع وأماكن أخرى ومناقشته مع العمال وكل من يهمه الأمر.
***
هذه هى طبيعة المرحلة، نصنع أفلاما للنقاش، فى انتظار أن يمر عشرون أو ثلاثون عاما، وتصنع أفلام أخرى تتناول أبطال الأفلام الحالية، لنرى ماذا صار لهم وكيف تطورت أمورهم، فهى أقرب لوثائق تؤرخ لعصر سيمضى وتأتى سنوات عديدة من بعده. وتستمر الرغبة فى إعادة قراءة الأحداث وإعادة رواية التاريخ بطرق مختلفة، وهو بالضبط ما جرى عندما أشارت المخرجة ياسمينة متولى خلال النقاش إلى فيلم «كومونة» باريس الذى أخرجه اليسارى البريطانى ــ بيتر واتكينز ــ عام 2007، ضمن الأعمال التى ألهمتها هى وفيليب رزق.
يروى المخرج البريطانى، على مدى نحو ست ساعات، ما حدث فى باريس سنة 1871 عندما انتخب 90 ممثلا فى مجلس المدينة أو كومونة باريس، باقتراع عام، وأعلنوا حكمهم على كامل فرنسا، بعد هزيمة نابليون الثالث فى الحرب أمام بروسيا، ما أدخل أعضاء الكومونة فى صراع وحشى مع السلطة القائمة والقوات الفرنسية النظامية. لجأ واتيكنز إلى عمال وعاطلين عن العمل ومهاجرين مهمشين، واستعان بهم كممثلين فى الفيلم، ليقدم رؤيته للكومونة التى اعتبرت أول ثورة اشتراكية فى العصر الحديث. رفض التصنيف ما بين روائى وتسجيلى، واسترسل فى الحكى والإسقاط على ما هو واقع. استغرق الأمر سنوات من البحث والتحليل لكى يصل إلى هذه الرؤية، وهو ما ينقص أفلامنا الحالية فى كثير من الأحيان.. العمق غير المفذلك مطلوب، خاصة إذا ما قررنا أن نناضل بالسينما وأن نؤرخ لحياتنا اليومية فى أيام حرجة. أن نحكى ما يحدث فى الشارع هو من أصعب الأشياء وأبسطها معا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة