هذه النهاية تحمل نوعا من التمرد على التابو الاجتماعى الذى يختم كل علاقة بخاتم الزواج، ولكن أمينة تتمرد على هذا التابو المجتمعى
لابد من تحية الدار التى تولت إعادة نشر الأعمال الكاملة للروائى الكبير إحسان عبد القدوس. ولاشك أن هذه الدار سوف تكون أمينة على تراث إحسان عبد القدوس الذى نالت رواياته من تزييف المتعصبين دينيا الذين لم يتورعوا عن تزييف رواياته والتدخل فيها؛ حذفا وتحريفا، فأساءوا إلى النص الروائى الإحسانى ولم يراعوا الأمانة فى الحفاظ على النصوص الروائية التى تركها الروائى الكبير أمانة بين أيدى ناشريه القدماء. ولحسن الحظ، اتفق أبناؤه محمد وأحمد مع الدار المصرية اللبنانية على إصدار الأعمال الكاملة دون تدخل وبأمانة كاملة، حفاظا على التراث الروائى لهذا الكاتب الكبير، وحماية له من عبث العابثين من المهووسين دينيا والمتخلفين اجتماعيا. وقد حضرت الاحتفال بإعادة طبع النسخة الأصلية من رواية أنا حرة التى أصدرها إحسان سنة 1954. وهى سنة حاسمة فى تاريخ النضال المصرى فى سبيل حرية الوطن والمواطن فى آن.
وكان من الطبيعى أن يختار إحسان نموذجا واعدا للفتاة المصرية المتطلعة إلى المستقبل فى وطن حر حطم قيود الاستعمار، محررا نفسه من الأغلال، ومحررا المرأة المصرية من كل التقاليد القديمة التى تعرقل مسيرتها إلى المستقبل الواعد بعهد جديد. وعنوان الرواية أنا حرة دال على مسارها السردى الذى يستكمل أحلام قاسم أمين؛ فبطلة الرواية فتاة نشأت بين عمة وزوجها يمثلان الجيل القديم الذى يؤمن بأن البنات لا مستقبل لهن إلا فى الستر والعيش فى كنف زوج هو تكرار لصورة وسطوة السيد أحمد عبد الجواد فى ثلاثية نجيب محفوظ. ولكن أمينة أنا حرة ترفض هذا المصير، وتصر على أن تكون نموذجا نقيضا، فتبدو كما لو كانت معجونة بالتمرد والرفض لكل ما ترى فيه مساسا بحريتها، فتدخل فى صدام دائم ومتكرر مع عمتها وزوجها، وتتحمل صفعاتهما التى تتلقاها بابتسامة ساخرة إلى أن ييأسا من ضيافتها كما جرت عليه التقاليد، فيتركانها لشأنها. وعندئذ تدرك أمينة أن الحرية مسؤولية، وتجتهد فى دروسها إلى أن تنجح فى الحصول على شهادة التوجيهية، وعندئذ يتكرر الصدام الأول، وتقرر العمة زواجها ويكفيها ما نالت من تعليم. ويأتى خطيب، ولكنها تستغل خلافا طفيفا وترفض الزواج، مقررة أنها سوف تكمل تعليمها. وترفض العمة وزوجها بقاءها تحت رعايتهما، فيضطر والدها إلى أخذها للعيش معه ورعايته، وتجد حرية أوسع فى منزل والدها الذى أصبحت هى سيدته. وتدخل الجامعة الأمريكية كى تجد فيها المزيد من الحرية. وتمضى سنوات الدراسة، وهى حريصة على أداء واجباتها الدراسية، مؤمنة بأن الحرية مسؤولية، وتتخرج فى الجامعة، ويتوسط عميد الكلية لها فتعثر على وظيفة معتبرة فى شركة أجنبية للإعلانات، وشيئا فشيئا تدرك أن الحرية وسيلة لغاية، وأننا نطالب بالحرية لنضعها فى خدمة أغراضنا، وقبل أن نطالب بحريتنا علينا أن نسأل لأى غاية نطالب بها. وتدرك أمينة الغاية التى تريد الحرية من أجلها، وهى أن تُحِب وأن تُحَب، وأن يكون هذا الحب وسيلة لغاية أكبر وأسمى. وتتذكر ابن شارعها القديم الذى أصبح محررا كبيرا فى جريدة، فتتصل به، وتتكرر لقاءاتهما، وتعينه على كل شىء مدركة أن وجودها إكمال لوجوده، ويراها رفيقة عمل وحب وكفاح صوب المثل العليا، فيقترنان ويعيشان معا. وكان حبها أكبر من أمانيها. فتلاشت حلاوة الأمانى فى عذوبة الحب القوى المكين. وقد فرضا حبهما على المحيطين بهما، فلم يشك أحد فى هذا الحب بعد أن عاش واستقر ثمانى سنوات. ولم يجرؤ أحد على اتهام عباس فى حبه لأمينة، ولم يجرؤ أحد على اتهام أمينة فى حبها له، حتى إن التجمعات المحيطة بهما اعترفت بهذا الحب وأصبحا يدعيان إلى اللقاءات كأنهما زوجان. أما المجموعات القليلة التى لم تعترف بحبهما فلم يأبها بها، ولم يعيراها انتباها. لكن الناس لا يزالون يتساءلون متى يتزوجان. وقد يتجرأ واحد من الأصدقاء الحميمين بطرح سؤاله فى لهجة عتاب ولوم وشفقة وتحذير فتغضب أمينة وتثور كأن السائل يتدخل فيما لا يعنيه، فتصرخ فى وجهه أنا حرة.
هذه النهاية تحمل نوعا من التمرد على التابو الاجتماعى الذى يختم كل علاقة بخاتم الزواج، ولكن أمينة تتمرد على هذا التابو المجتمعى لأنها ثائرة على التقاليد الاجتماعية التى قد تظنها لا تفلح إلا فى صنع علاقات عبودية وليست علاقات حرية. ولذلك فهى تحرص أن تعيش مع حبيبها خارج مؤسسة الزواج كى يكون كلا الطرفين حرا فى استمرار هذه العلاقة. ويعنى ذلك طبعا أن إحسان أراد أن يصوغ نموذجا بشريا هو نقيض لنموذج أمينة نجيب محفوظ فى الثلاثية، مؤكدا حضور امرأة عصرية من نوع مختلف وتعليم وتصورات حياتية مختلفة ومضادة.
ولكى يحقق ذلك لجأ روائيا إلى أسلوب الراوى العليم بكل شىء omniscient narrator الذى يتولى الحكى، ويتابع نموذجه من ميلادها إلى نضجها وارتباطها بالحبيب فى علاقة من نوع جديد، تلغى مؤسسة الزوجية، على الأقل إلى حين. والطريقة التى يتابع بها الراوى العليم بكل شىء حضوره الراوى تلجأ إلى ما يقارب النزعة الطبيعية، فيجعل العناد والرفض موجودين حتى فى أمينة الوليدة التى لا تكف عن الصراخ الذى يبدو كأنه نوع من الاحتجاج على النوعGender ذاته. وحين تكبر أمينة وتغدو طفلة تختار اللعب مع الأولاد. وتنفر من أول تلامس جسدى، تجده مقرفا، حين يحاول شقيق لصديقتها أن يغريها فلا تشعر إلا بالقرف من طعم لسانه الذى يضعه بين شفتيها. ولا تبدو المسافة كبيرة بين الراوى العليم بكل شىء وإحسان عبد القدوس، فكلاهما واحد، وكلاهما يستعرض حياة أمينة بما يجعلها مرآة تعكس تصورات إحسان عن عالم الحرية الذى يطلبه، فيحركها بوصفها نموذجا بشريا، يدفعه ما بين الأحياء، مهتما بتفاصيل دالة منها التعلق بالترام مع الأولاد وتعلم الرقص عند الصديقة اليهودية، وملاحظتها سير عباس الذى ستظل منشغلة به، كى يحبها وتحبه، فتتعلم كيف تضحى بحريتها أو تتنازل عنها قربانا، مقابل أن يتعامل هو معها بما يؤكد تضحيته الموازية بحريته التى يتنازل لها عنها.
وفيما عدا بعض التشبيهات المحلقة فى رومانتيكيتها الزاعقة، مثل صدرها البكر الذى تجمع فى شبابها فبرز فى استدارتين مقدستين كأنهما شارتا معبد يبدو بعيدا فى الأفق، يلهث الناس فى السعى إليه فلا يلحقون به، وتمتد نحوه أذرع البشر مبتهلة فلا تصل إلى شىء منه أو كانت فى وقفتها ترقب طلبة مدرسة فؤاد الأول الثانوية وهم يمرون من تحت شرفتها، كأنهم موكب العبيد يقدم فريضة الخشوع للملكة. أقول على الرغم من مثل هذه التشبيهات المسرفة فى رومانتيكيتها، فإن لغة الرواية لغة بسيطة بصرية، تقرأها بعينى مخيلتك، لأنها تخاطب الخيال البصرى فى القارئ. وهذا هو السبب الذى جعل كتابات إحسان عبد القدوس مغرية لفن السينما، فصاحبها كاتب روائى، أوضح ما فى كتابته قدرتها على مخاطبة الخيال البصرى، الأمر الذى يجعل إعدادها للسينما أمرا سهلا، وهذا هو سر سرعة ظهور أنا حرة على الشاشة بعد عامين من صدورها. شأنها شأن الكثير غيرها، مثل الطريق المسدود وأين عمرى وولا أنام قرابة السبعين فيلما ومسلسلات تليفزيونية. وقد شارك فى صياغة وكتابة حوار العديد من الأفلام المصرية، مثل الله معنا عن قضية الأسلحة الفاسدة التى تصدى للكتابة عنها فى العهد الملكى، كما شارك فى صياغة وكتابة حوار العديد من أفلامه، مثل لا تطفئ الشمس للمخرج صلاح أبو سيف الذى كتب نص الحوار فيه، كما كتب الحوار كذلك لفيلم إمبراطورية ميم، كما شارك الكاتبين سعد الدين وهبة ويوسف فرنسيس فى كتابة سيناريو فيلم «أبى فوق الشجرة». ولذلك فدوره فى إثراء السينما المصرية دور لا ينكر.
والحقيقة أن أهمية دور إحسان عبد القدوس فى السينما تبرزها رواية أنا حرة، وذلك من حيث دلالاتها على ما جاء بها؛ فإحسان عبد القدوس أسهم بروايته مع نجيب محفوظ- فى إثراء السينما المصرية بكتاباتهما الروائية وبما اشترك فيه كلاهما من كتابة السيناريوهات والحوارات. ولكن إحسان عبد القدوس ينفرد بميزة تفرده بمكانة خاصة، وهى قدرته على إنطاق المسكوت عنه اجتماعيا وسياسيا فى جسارة لافتة. وهذا هو الذى يجعله يواجه مواجهة التحدى التابوهات الاجتماعية. فيعريها ويكشف عنها، ابتداء من أنا حرة وليس انتهاء برواية العذراء والشعر الأبيض. وأعتقد أن المقارنة بين رواية أنا حرة والفيلم الذى نقلها إلى لغة السينما يمكن أن يكشف عن جسارة إحسان عبد القدوس وقدرته على إنطاق المسكوت عنه بما يسهم فى تحطيم التابوهات الاجتماعية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة