لهذا تحول معظم مقالات الرثاء الى نصوص ذاتية عن كتّابها، ليس للفقيد فيها سوى أنه مرّ بحياة الكاتب.
مؤرخ الأدب العربي المبدع شوقي ضيف، صنّف الرثاء عند العرب ألواناً ثلاثة: الندب، والتأبين، والعزاء. وهو فَرّق بين الندب والتأبين، فالندب هو بكاء الأهل والأقارب، أما التأبين، وإن شئت الرثاء، فهو الثّناء على الميت وتعداد فضائله ومزاياه وبيان الفراغ الذي تركه الراحل عندما أفل نجمه وغابت شمسه، والرثاء في الغالب، هو دور الآخرين غير أقاربه، من أصدقائه ومحبيه والقريبين منه.
من يقرأ مقالات الرثاء التي يكتبها معظم الأدباء والصحافيين والكتّاب عن المبدعين ورجالات السياسة والمجتمع، ونجوم الأدوار العامة، في شتى مناحي الحياة، الذين غيّبهم الموت، يشعر بأن الكاتب يتحدث عن نفسه، وعلى نحو يضجّ بالأنانية وحب الذات، وكأن فقدان هذا المبدع في مجاله بات مناسبة لمعرفة مكانة كاتب المقال في مسيرة الفقيد، ودوره المؤثر في حياته... هذا إذا كان صحيحاً أن لهذا الكاتب دوراً في حياة الفقيد، أو حتى أنه يعرفه من قرب، ولهذا تحول معظم مقالات الرثاء الى نصوص ذاتية عن كتّابها، ليس للفقيد فيها سوى أنه مرّ بحياة الكاتب.
أول من اكتشف خيبة الرثاء في الصحافة العربية هو الكاتب المصري الراحل محمد جلال كشك. والمفارقة أنه لم يفصح عنها إلا حين أحس بأن شمسه تغيب. كشك كان صحافياً عظيماً ومبدعاً، وهو أحد نجوم مجلة «الحوادث» اللبنانية التي صنعها باقتدار الصحافي اللبناني الراحل سليم اللوزي. كان كشك يكتب أكثر من موضوع في العدد الواحد، يوقّع واحداً باسمه، والأخرى يوقعها بقلم «ج. ك.». وكانت موضوعاته جزءاً من أهمية مجلة «الحوادث» أيام عزها، فضلاً عن أن محمد جلال كشك كان باحثاً جاداً ومختلفاً، وهو من أهم الكتّاب الذين أنجبتهم مصر في القرن العشرين، لكن حظه فيها لم يكن يليق به. وهذا الإهمال الذي لقيه جاء بسبب نقده ثورة «يوليو»، على رغم انه أغنى المكتبة العربية بكتب قيّمة، مثل: «السعوديون والحل الإسلامي»، و «دخلت الخيل الأزهر»، و «الحوار أو خراب الديار»، الذي صدر خلال المواجهات مع الإسلاميين، وغيرها من الكتب المهمة، فضلاً عن أنه عاش حياة صحافية وفكرية ثرية ومثيرة.
كشف محمد جلال كشك أزمة فنّ الرثاء في الصحافة العربية قبل موته بوقت قصير. أدرك هذه الأنانية عند الكتّاب العرب في هذا الزمن، فاستدرك، ونعى نفسه بنفسه قبل رحيله بأشهر في مقال نُشِر في مجلة «أكتوبر» المصرية، بعنوان: «أنعى لكم نفسي». وهو قال ذات مرة: «أنا لما أموت محدش حيكتب عني كلمة»، على رغم أنه كان كاتباً متفرّداً بأسلوبه، وله قيمة تترسّخ مع الوقت، في مصر والعالم العربي، وحياته كانت سجلاً حافلاً للمرحلة التي عاشها. كان نجماً مصرياً كبيراً، مع أنه قضى معظم عمره خارج مصر، وظل يكتب عنها، ويعيش همّها بكل حرقة. وهو أول من نبّه الى مشروع إيران التوسعي في المنطقة، وقال عن هذا الدور في أحد حواراته: «إيران تمارس الغزو الفكري منذ قالت إن عصر القوميات انتهى، وإن الإسلام هو الأساس وليس الأوطان». ومن يرى التدخُّلات الإيرانية في شؤون دول المنطقة وشعوبها اليوم، سيجد أن محمد جلال كشك تنبّأ بخطورة هذا الدور في وقت مبكر.
محمد جلال كشك لم ينعَ نفسه في مقاله الشهير فحسب، بل نعى المهنية والموضوعية في الصحافة العربية، وهو بحسّه المهني أدرك أن الساحة الصحافية أصبحت تضج بأقلام تجعل الموت مناسبة للحديث عن الذات، وتَمُنّ على المبدعين، إذا رحلوا، بكلمة. ولو قُدِّر لجلال كشك أن يعيش بيننا اليوم لكتب مقالاً بعنوان «أرثي لكم حال الرثاء».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة