هل نلقى بطوبة الديمقراطية؟ كلا. لأن فيها الخلاص، فلا بدّ أن يصرّ أنصار يناير عليها. ولكن عليهم أن يطوِروها
تحلّ الذكرى السنوية الخامسة للانفجار الشعبى فى يناير 2011 وقد احتدم ما يشبه المشادات حول ما إذا كان هذا الانفجار ثورة أم أنه كان «خساير» ناجمة عن مؤامرة شريرة خرّبت نظاما نعم المصريون فى ظله بالعيش الكريم والعدل والاحترام.
أى مؤامرة هذه التى لم يكن لدى القائمين بها أى تصور للاستيلاء على السلطة ولا لممارستها ولا لملامح النظام السياسى الذى تطلعوا إليه؟ قد يكون هذا النقص فى التصور بابا لنقد من وقفوا وراء إطلاق يناير. لقد كان الرفض هو الأساس الأول للتحرك فى السنوات التى سبقت يناير وخلاله ــ رفض التوريث والتمديد والقهر والفساد ــ وكانت الرغبة الوطنية فى التغيير أساس التحرك الثانى وإن لم تطور هذه الرغبة تصورا فكريا مفصلا عن النظام السياسى الذى أرادت أن يسفر عنه التغيير. لقد أدّى القائمون بيناير خدمة جليلة لشعبهم إذ نبّهوه إلى قدرته على أن يفرض على ممارسى السلطة خشيته، وليس هذا مما يستهان به، وهو بالفعل لا يستهان به. أما ما لم يقوموا به فعذرهم فيه أن موارد قوتهم كانت شحيحة لا تقاس بموارد قوة السلطة، وأنهم لذلك استنفدوها فى مقاومة هذه السلطة، وفى الرفض وفى مجرد التعبير عن الرغبة فى التغيير.
على أى حال الخوض فى المشادات أو ما يشبهها لا يليق بثورة يناير ولا بشعبها. ربما كان الاحتفاء الجدير بذكرى يناير هو تقويم ما صار لواحد من أهدافها المضمرة، ألا وهو تحقيق الديمقراطية. الهدف كان مضمرا فى شعار «الكرامة» الذى رفعته جماهير يناير. إلى جانب الحرية، أو الخبز، والعدالة الاجتماعية، كان شعار «الكرامة» مطالبة بأن يدير الناس شئونهم وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهذا هو جوهر الديمقراطية. المقصود بالديمقراطية هنا وباختصار هو النظام السياسى التعددى والتنافسى الذى يحترم حرية الرأى والاجتماع والتنظيم، وينعدم اليقين فى نتائج التنافس فيه، نظام يمارس التشريع فيه ممثلو الشعب المنتخبون الذين يعلون على كل ما عداهم ويراقبون أداء سلطة تنفيذ الإرادة الشعبية. الديمقراطية أيضا تحمى حقوق الأقلية وتؤمن إقامة العدالة وتصون للناس خصوصياتهم.
***
منذ تخلِى الرئيس الأسبق حسنى مبارك عن السلطة فى 11 فبراير 2011 مرت مصر بمراحل ثلاث كبرى. المرحلة الأولى علامتها الأساسية استفتاء 19 مارس 2011، والثانية هى السنة التى تولّى فيها الإخوان المسلمون زمام الحكم، أما المرحلة الثالثة فهى التى دشّنها برنامج 3 يوليو 2013 والتى يفترض أنها اكتملت الآن بانعقاد مجلس النوّاب. ما الذى حدث للديمقراطية خلال هذه المراحل الثلاث؟
فى المرحلة الأولى، وعلى الرغم من شعار «الكرامة» ومن أن مطلب الديمقراطية كان كامنا أيضا فى تعددية حركات الرفض والدعوة إلى التغيير فى السنوات السابقة على يناير، والتى ضمت ليبراليين، وناصريين، ويساريين، ومعهم إخوان مسلمون، فإن الديمقراطية لم تعط أى فرصة. الدعوة إلى استفتاء 19 مارس كانت استباقا لتفسير الأفكار الديمقراطية والتفصيل فيها وعرضها على المواطنين، وقطعا للطريق أمامها. كان من شأن هذا التفسير والتفصيل والعرض أن يؤدى إلى تبدّل فى القضايا المطروحة للنقاش العام، وفى أسلوب طرحها ومناقشتها، وفى الأوزان النسبية للفاعلين الناشطين فى هذا النقاش، وهو ما كان يمكن أن يفضى إلى تغير كامل فى الساحة السياسية وإلى أن يكتسب للديمقراطية أنصارا يعتد بهم بين المواطنين. الوحيدون الذين كان يمكن أن يستفيدوا من استفتاء 19 مارس كانوا أصحاب الموقف الأكثر رواجا منذ العهد الساداتى والمباركى من بعده، ألا وهم الإخوان المسلمون ومعهم السلفيون. التعجل ما كان يمكن أن يؤدى إلا إلى هزيمة أنصار الديمقراطية التعددية والتنافسية وإلى فوز أصحاب الإسلام السياسى الذين استطاعوا به إرساء القواعد التى استفادوا بها فيما بعد للفوز بالسلطة التشريعية ثم برئاسة الجمهورية خلال الخمسة عشر شهرا التالية.
السنة التى تولى فيها الدكتور محمد مرسى رئاسة الجمهورية كشفت عن رغبة جماعة الإخوان المسلمين فى استخدام آليات الديمقراطية التى أوصلتهم إلى الحكم لتأمين ديمومتهم فيه. تبدّى ذلك جليا فى عملية صياغة الدستور التى حرص الإخوان المسلمون على أن يكون لهم ولحلفائهم من السلفيين فيها الكلمة النهائية عند تحديد بنية الدستور وإطاره الفكرى، ثم عند صياغة أحكامه. وكانت ذروة رغبة الإخوان المسلمين فى احتكار السلطة هى الإعلان الدستورى الصادر فى 22 نوفمبر 2012. بهذا الإعلان أراد الإخوان المسلمون أن يجمِعوا كل خيوط الحكم وألا يتركوا مجالا لعدم اليقين الذى تتسم به العملية الديمقراطية. ولكن هذا الإعلان كان القشة التى قصمت ظهر حكم الإخوان، قصما اكتمل فى 3 يوليو 2013.
برنامج 3 يوليو رسم طريقا يفترض أن يؤدى إلى الديمقراطية، ولكن انحرافات كثيرة حادت به نحو ممارسات نقيضة للديمقراطية من التحايل على تطبيق الدستور، إلى التأخر فى عقد الانتخابات النيابية، وإصدار القوانين المقيدة للحريات، والإفراط غير المبرر فى إصدار قرارات بقوانين فى بعضها مخالفات سافرة للدستور، واتخاذ قرارات بشأن مشروعات كبرى فى غيبة ممثلى الشعب، والسجن الممتد للآلاف والآلاف من الإخوان المسلمين إلى شباب الثورة فى ظروف شاع عنها بؤسها، والموت فى السجون، والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسرى، والصمت على انتهاك خصوصيات الناس والتشهير بهم.
ولكن برنامج 3 يوليو قد اكتمل الآن، فهل من علامات على أن الانحرافات ستصحح وأن الطريق سيستقيم فى التقدم نحو الديمقراطية؟ البدايات ليست مبشرة. القوانين المذكورة، المقيدة للحريات وغيرها، نظر فيها مجلس النواب الجديد وأقرها كما هو مطلوب منه وبسرعة قياسية. هذا يكشف عن أن الأغلبية فى البرلمان وكما أعلنت مرارا تنوى تيسير السبل على السلطة التنفيذية وربما وصلت إلى أن تعمل على تنفيذ ما لوّحت به أثناء الحملة الانتخابية، أى تعديل الدستور لأسباب من بينها التنازل عن جانب من حقها فى مراقبة السلطة التنفيذية. إذا كانت سلطة المراقبة والتشريع تتنازل عن أن تمارس بفاعلية هاتين الوظيفتين، فهل نكون بصدد ديمقراطية حقيقية؟ الشعب قد يتساءل عندئذ عن ضرورة وجود جهاز لا يمارس وظائفه! فإن زدت على ذلك الانطباعات التى خلفتها الجلسات الأولى للبرلمان قبل إغلاق الأسوار عليه، فإنك بدورك ستتساءل إن لم يكن من هندسوا العملية الانتخابية قد فكروا فيما يمكن أن تؤدى إليه نتائج هندستهم من تقويض لفكرة التمثيل الشعبى بل وقد يصل بك الأمر إلى الشك بأن هذا التقويض ربما كان مقصودا أصلا.
إن تقوّضت الفكرة الديمقراطية وليس فقط ممارستها، فما النتيجة؟ مقاربتان ممكنتان لمحاولة التصدى لهذا السؤال. الأولى هى أنه فى ظل السلطوية التراتبية التى تهبط فيها الأوامر والتعليمات والإرادات من أعلى إلى أسفل، ولا يعتد فيها بمطالب وأفكار ومراقبة من يشغلون المراتب الأدنى فى النظام الاجتماعى السياسى، رأينا مشاكلنا تتفاقم خلال عشرات السنين الماضية حتى وصلنا إلى أوضاع ليس ثمة من يختلف على أنها تدعو للأسى. هل نريد أن نستمر فى نفس السلطوية التراتبية؟ المقاربة الثانية تنصب على الفكرة الديمقراطية ذاتها. إذا ما تحقق النجاح فى أن يكفر الناس بالديمقراطية وبجدواها، كما نجحت هندسة الانتخابات فى إبعاد الناس عنها، فإلى أى أساس فكرى سيستند الحكم؟ عندها سيعدم الحكم أى أساس فكرى، والبلاد لا تحكم بلا أفكار. فى السياسة إن لم تستند الصراعات إلى أفكار فإنها تصبح صراعات على المصالح والسلطة.
***
هل نلقى بطوبة الديمقراطية؟ كلا. لأن فيها الخلاص، فلا بدّ أن يصرّ أنصار يناير عليها. ولكن عليهم أن يطوِروها، أن يبحثوا فى التفاعل بين الديمقراطية، من جانب، وأغراض التنمية وعلاج آفات التخلف ورفع مستويات المعيشة فى بلد نام مثل مصر، من جانب آخر. البحث فى هذا التفاعل وإشراك الناس فيه سيكسب للدعوة الديمقراطية الأنصار. ونظريات التطور الديمقراطى، وهى تنطبق علينا فنحن لسنا إلا مجتمعا مثل غيرنا من المجتمعات فى مشارق الأرض ومغاربها، هذه النظريات تقول بأن التحول إلى الديمقراطية لا يحتاج لكى ينجح فى بلد ما لأن تكون أغلبية الفاعلين السياسيين فيه من أنصار الديمقراطية بداية. فى لحظة ما يتبدّى للفاعلين السياسيين أن توزيع السلطة والتوازن بينها، واحترام الآخر وحقوقه، أو بعبارة أخرى الديمقراطية، هى الحل الوحيد الذى يمكن أعضاء مجتمع ما من أن يوفقوا بين مناظيرهم المختلفة ومن أن يستمرّوا فى العيش معا وفى التصدّى للمسائل التى تعترضهم. الديمقراطية ليست عصا سحرية لحل كل المشكلات، ولكنها العصا التى تفتح طريقا بين الغاب الكثيف المتشابك.
يناير كان بداية طريق طويل نحو الديمقراطية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة