خديجة النبراوي .. ربة منزل تصل إلى العالمية بتأليف الموسوعات
طلابها يلقبونها بـ"أم النور" لكثرة مؤلفاتها عن حياة الزمان النوراني بديع الزمان سعيد النورسي، بينما يلقبها الاقتصاديون بـ"الجهبذ"
برفقتها تشعر أنك أمام نموذج فكري روحي نوراني يأخذنا إلى عالم ظننا أنه صار طي النسيان وسط زحام التكنولوجيا الحديثة .. امرأة لم يمنعها بيتها وزوجها وأبناؤها الأربعة عن الصمود أمام الموسوعات العلمية والبحثية لتناطح الكبار في عالم التأليف والتحقيق بمجالات الاقتصاد الإسلامي.
حياتها بمثابة التحولات الكبرى والقفزات، تترك الطب لتلحق بكلية السفراء، وتتفوق على أقرانها لتجلس في المنزل، ثم تعود بعد غياب لتضع الجميع في ذهول أمام إرادة امرأة حديدية رفضت الاحتباس في أقفاص الزواج، وفكت خيوط الملهاة الاجتماعية وغزلت بها نسيجًا علميًّا لبيت فكري تحفه الملائكة لكثرة ما فيه من الذكر والعلم.
إنها الباحثة الإسلامية الدكتور خديجة النبراوي، التي يلقبها طلابها بـ"أم النور" لكثرة مؤلفاتها عن حياة الزمان النوراني بديع الزمان سعيد النورسي، بينما يلقبها الاقتصاديون بـ"الجهبذ" لجمعها دراسات اقتصادية مقارنة مع الشريعة الإسلامية في "موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي". هي ربة البيت التي جمعت 14 ألفًا و800 حديث نبوي في العلوم السياسية والاجتماعية.
صدمة المدينة:
ولدت عام 1948 في مدينة بنها بمحافظة القليوبية، إحدى محافظات مصر الملاصقة للقاهرة، تزوجت بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة، لتنتقل مع زوجها، الطيار الحربي، إلى القاهرة حيث المدينة الصاخبة التي لم تعتدها في مدينتها الصغيرة التي تجمع أطرافها في ساعة واحدة.
انتقلت إلى القاهرة لتواجه عالمًا يضج بالبشر، زحام وصخب وأناس لا تعرفهم، كانت تمشى مسافة طويلة لتركب القطار إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في الجيزة، والتي فضلتها على كلية الطب التي كانت تريدها، حتى لا تشغلها عن تكوين أسرة والاهتمام بها.
وتقول: "أذكر يومًا بعد عودتي من الجامعة، قررت ألا أذهب ثانية؛ لأن الحياة في القاهرة كانت صدمة لي بكل المقاييس، ورفض زوجي بشدة أن أتوقف عن الدراسة، فهو من أيقظ لي كل عوامل التنبيه، سواء التزامي ناحية دراستي أو كوني زوجة وربة أسرة".
تتلمذت على يد أساتذة الاقتصاد الدكاترة مصطفى السعيد ورفعت محجوب وزكي شافعي، وتضيف: "كانت دفعتنا 150 خريجًا، فكان لنا نصيب كبير من وقتهم، كل ما كان في الكلية يحيل إلى الفكر والعظمة. تخرجت عام 1970 وسافرت إلى ليبيا مع زوجي، الذي كان يساندني ويحفزني دائمًا على مواصلة التحصيل والتعلم، رجل جيش صارم وقوي، خاض الكثير من الحروب، وعلمتني الحياة معه قيمة الوقت، وكيف يكون لي دور في الحياة، وكيف أعبر عن رأيي بطريقة لا شطط فيها ولا مبالغة، فدفعني إلى الطريق العقلي، ودائمًا ما كنت أذكر أن "الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".
تعتز الدكتورة خديجة النبراوي بأنها باحثة متفرغة للبحث العلمي في المجال الاجتماعي، حتى لا تشغلها أعباء الوظيفة عن تلك المهمة الجليلة.
دأبت على إجادة اللغة الفرنسية للتواصل مع أبنائها بمدارسهم الفرنسية حتى تخرجوا جميعًا، وصاروا أستاذة بكلية الهندسة ومهندسين، وقالت عنهم: "بالحب تسهل التكاليف وتلذ".
صعوبة مجاورة العلماء:
جاورت خديجة العلماء والفقهاء لتستقي منهم العلوم المتنوعة عبر مناقشات وأبحاث لسنوات. لم يمنعها العلم الاقتصادي من العلم الشرعي، فكانت من تلاميذ الدكتور حسن زكي، وارتقت في المقام عنده فكان يأتمنها على مراجعة كتبه. وكانت من قراء الشيخ كشك منذ أن كانت في الثانوية، وتقول عن هذه المرحلة: إن "مصاحبة العلماء ليست هينة بالمرة، فالشيخ كشك مدرسته شديدة، لكنها أفادتني كثيرًا، قرأت له فقه السنة وابن كثير فتحت لي أفاقًا كبيرة".
كان من نتائج شغفها بالبحث العلمي اشتراكها في عدة مسابقات لأبحاث إسلامية حققت فيها الفوز بالمراكز الأولى.
أول ما شاركت فيه كانت مسابقة عالمية احتفالًا بالعيد الألفي للأزهر عام 1981، فأذهلت الجميع ببحثها حول "دور الأزهر في الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج"؛ لم يفُز فيها غير ثلاثة فقط هي منهم. وتقول: "يوم استلامي الجائزة تصوَّر الحاضرون أن الحاصلة على المركز الثاني في هذه المسابقة ستكون بالتأكيد سيدة في أواخر العمر، وما إن نادوا على اسمى ليسلمني الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر، الجائزة رأيت في أعينهم الدهشة بأني في منتصف الثلاثين، مما جعلني أتوارى عن أعينهم وعن أعين الإعلام كثيرًا في قاعة كانت تكتظ بالشيوخ والعلماء، لم تخلُ إلا من ثلاث سيدات، أنا وأختي والإعلامية الشهيرة كاريمان حمزة".
لها عدة كتب وأبحاث أخرى، بعضها أبحاث انفردت بالقيام بها وبعضها تجميع وتبويب وتحقيق لعلماء أجلاء، مثل: "الشيخ عبد الطيف مشتهري نجم غاب عنا"، "عمر بن عبد العزيز وتجربته الرائدة في الإصلاح"، "تحريم الربا ومواجهة تحديات العصر"، "المعالجة الإسلامية للتضخم" (بحث في الاقتصاد الإسلامي، قُدِّم إلى مركز الشيخ صالح عبد الله كامـل للاقتصـاد الإسلامي عام 1983)، "تاريخ المسلمين في إفريقيا ومشكلاتهم" (فاز بالجائزة الأصلية في مسابقة الدكتور شوقي الفنجري).
أما بحث "دور كليات رسائل النور في يقظة الأمة" ففاز بالجائزة الكبرى في المسابقة الثقافية لفكر الإمام النورسي، وهي الرسائل التي بلغت من الصعوبة حدًّا لم يدفع سوى القليل من الباحثين إلى الاشتراك فيها، إلا أن الدكتورة خديجة كانت أول من قدمها وسهلت قراءتها في مصر.
وذهب خديجة إلى أبعد من ذلك، حين قالت إنه كان يتم تلقينها هذه الرسائل عبر رؤى للإمام النورسي ذاته، وكانت له معها العديد من المناقشات لتكون لها إلهامًا وتفسيرًا لما تقرؤه في مؤلفه "رسائل النور"، مما ساعدها على تقديم هذه الرسائل في صورة سهلة، فصدر عنها عدد من الكتب، مثل: "الحـب بين الوهم والحقيقة"، "المرأة في الإسلام حرية أم عبودية"، "مشكــلات نفسيـة للإنســان"، "مشكــلات عقلية وقلبية للإنسان"، "النبـوة وضرورتها للإنسانية".
كما قامت بتجميع وتحقيق وتبويب العديد من الكتب والمخطوطات من فكر الأستاذ الدكتور حسن عباس زكي، أو مجهوده في الحصول على تلك المخطوطــات والحفاظ عليها ومنها: "تفجير الطاقات الكامنة في الإنسان"، "الإنسان والوجود"، "أنـوار الشريعة ومعـارج الحقيقـة"، يشمـل مخطوط لعالم مغربي وهو الشيخ قطب زمانه أبي محمد عبد الله بن عزوز، "تربيع المراتب والأصول" وهو مخطوط نادر لقطب زمانه الشيخ إبراهيم البثنوي من تركيا.
أما أهم ما تعتز به الباحثة ويُعَد اجتهـاد العصر بإجماع العلماء فهو "موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي من نبع السنة الشريفة وهدي الخلفاء الراشدين"، في 5 مجلدات، استغرقت 4 سنوات من العمل، وهو تبويب للأحاديث كما وردت في كنز العمال، تبويبًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا حسب مفهوم البحث، مما يفتح مجالًا واسعًا أمام الباحثين لتحقيق التطور المنشود في تلك العلوم.
كرمتها الجامعات المصرية والعربية، هذا إلى جانب العديد من الأوسمة وشهادات التقدير في المؤتمرات الدولية والمحلية.
وما زالت رحلة العطاء العلمي والتواصل مع قضايـا المجتـمع للبـاحثـة الإسـلاميـة خديجة النبراوي مستمرة، لأنها تؤمن بمبدأ "تلاحق الأفكار"، الذي يعبر عنه التراث الشعبي بتلك المأثورة الخالدة "زرع من قبلنا فأكلنا، ونزرع ليأكل من بعدنا".
aXA6IDE4LjIxNy4yMDguNzIg جزيرة ام اند امز