كما أن الثابت، خصوصاً خلال الأشهر الماضية، أن العديد من المجتمعات العربية شهدت تبلور وتطور أشكال مستجدة ومختلفة نوعياً من الحراك الشعبي
خلال الأيام الماضية، «احتفل» البعض في البلدان العربية التي شهدت منذ خمس سنوات ثورات أو انتفاضات بـ «العيد الخامس» لتلك الثورات أو الانتفاضات. بينما اعتبرها البعض الآخر في تلك البلدان، أو خارجها، مناسبة لصب اللعنات عليها وتحميلها مسؤولية ما حلَّ بتلك البلدان من مشكلات أو «كوارث» على مدار السنوات القليلة الماضية، أضيفت إلى ما كانت تعانيه هذه البلدان أصلاً من أوجه خلل وقصور وفشل طوال سنوات، بل عقود سابقة على انطلاق تلك الثورات والانتفاضات. كذلك يوجد البعض الثالث الذي اعتبر هذه «الذكرى» فرصة للتحسر على ما آلت إليه مسيرة الفترة المنقضية في حياة تلك الثورات والانتفاضات، سواء من جهة رؤية هؤلاء بأن هذه الثورات أو الانتفاضات تعرضت لانتكاسات وإخفاقات أو من جهة تعرض هذه الثورات أو الانتفاضات، من وجهة نظر هؤلاء، لامتطاء تيارات لها وسعيها الحثيث لامتلاك قيادتها. أو من جهة ثالثة، ابتعاد تلك الثورات أو الانتفاضات عن المسار الذي كان مأمولاً منها، ومن ثم ابتعاد الواقع المعاش بعد هذه السنوات عن الآمال والتطلعات التي عبرت عنها الشعوب العربية المعنية عندما أطلقت أو انضمت إلى تلك الثورات، بل وحتى في بعض الأحيان تناقض الواقع مع الأهداف التي أعلنتها وتبنتها الشعوب خلالها. وأخيراً، هناك البعض الرابع الذي يعبر عن الندم على مشاركته أصلاً في تلك الثورات وبات يقبل من ينعتونها بأنها أصلاً نتاج مؤامرات خارجية، إقليمية أو دولية، وأن الشعوب «أكلت الطعم» وتعرضت للخديعة بانضمامها إليها.
وأياً كان الرأي في ما أطلق عليه تعبير «الربيع العربي»، أو غيره من تسميات متناقضة في بعض الأحيان، فإن الحال لم يبق على ما كان عليه في أي من الدول التي شهدت اندلاع تلك الثورات، بل ولا حتى في المنطقة العربية بأسرها وفي ما حولها. فكما كان يقول فلاسفة الإغريق «جرت في النهر مياه كثيرة»، إذ تغيرت أوضاع الداخل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والثقافية، في تلك البلدان. كما طرأت تعديلات على معادلات موقع هذه الدولة أو تلك ضمن التوازنات الدولية أو الإقليمية أو دون الإقليمية ودورها في إطار هذه الدوائر المختلفة. وذلك بالطبع من دون الانسياق إلى فخ الحكم مسبقاً أو إصدار أحكام متسرعة على مضمون ما حصل من تغييرات أو تحولات، ومع الإقرار بأن هناك من الأطراف المعنية وذات الصلة، أو بمعنى أدق الأطراف صاحبة المصلحة، من يعتبر أن ما حصل من تطورات كان إلى الأسوأ. بينما هناك على الجانب المقابل من يرى فيها تحولاً نحو الأفضل، ولو بدرجات نسبية ومتفاوتة.
كما أن الثابت، خصوصاً خلال الأشهر الماضية، أن العديد من المجتمعات العربية شهدت تبلور وتطور أشكال مستجدة ومختلفة نوعياً من الحراك الشعبي. وتنطبق هذه الملاحظة على بعض المجتمعات التي كانت قد شهدت ثورات أو انتفاضات منذ خمس سنوات، أو أيضاً على بعض المجتمعات العربية الأخرى التي بدا وكأنها كانت بمنأى عن التعرض لظاهرة «الربيع العربي» أو تداعياتها. إلا أن موجة الحراك التي شهدتها مجتمعات عربية عدة خلال الفترة الأخيرة كان لها تمايزها عن حراك نهايات عام 2010 والنصف الأول من عام 2011 على أكثر من صعيد. فمن جهة، شهدت هذه الحالات الأخيرة في بعض الأحيان ظاهرة ملفتة وهي أنها حظيت بمباركة، أو أحياناً بدعم غير مباشر أو غير معلن، من بعض أطراف النخبة السياسية في هذه الدولة أو تلك. ومن جهة ثانية، طرحت هذه الحالات الأخيرة من الحراك قضايا محددة في ما بدا أنها رسالة بأن هذا الحراك لا يستهدف الإطاحة بالنظم أو بالنخب، من دون أن يعني ذلك غياب الطابع الجذري عن المواقف التي عبَّرت عنها تلك الأشكال المستجدة للحراك الشعبي. ومن جهة ثالثة، تم الحراك في بعض الحالات هذه المرة في بعض المجتمعات العربية التي تتصف بخصوصية تتمثل في غياب التجانس العرقي أو القومي أو الديني أو المذهبي، ومن ثم وجود تركيبة طائفية شديدة التعقيد والحساسية في توازناتها.
ولئن كان أحد أهم الشعارات التي رفعتها الموجة الجديدة هو محاربة الفساد بغية استئصاله من جذوره، فقد تعددت أيضاً الاتهامات والتساؤلات، سواء الصريحة أو من قبيل الغمز واللمز، الموجهة إلى تلك الأشكال المختلفة نوعياً للحراك في شأن المحرض الرئيسي عليه، سواء من الداخل أو من الخارج، وسواء من داخل النخب الموجودة أو من دوائر معارضة كلية لتلك النخب، وكذلك في شأن الأغراض والأهداف و «الأجندات» التي تخدمها هذه الأشكال المستجدة للحراك في تلك المجتمعات. إلا أن رد الفعل من جانب الأطراف المشاركة في تلك الموجة الجديدة على تلك الاتهامات كان انتقال الموجة نفسها من الدعوة إلى محاربة الفساد والقضاء عليه، إلى استهداف رموز، بل والنيل منها بصورة صريحة من خلال الربط، سواء في شكل مباشر أو غير مباشر، بينها وبين تجليات مختلفة للفساد بصوره وأشكاله المختلفة وفي مختلف ميادين الحياة العامة في هذه الدولة العربية أو تلك.
إلا أن جانباً آخر لهذه الأشكال المستجدة للحراك في عدد من المجتمعات العربية أظهر أنها ليست بعيدة تماماً في أبعادها كافة عن تلك الأشكال التي شهدتها الثورات أو الانتفاضات التي حصلت في سياق ما أطلق عليه «الربيع العربي»، بخاصة في ما يتعلق بما نرى أنه كان المحرك الرئيسي لانضمام الملايين من أبناء تلك الشعوب إلى الإرهاصات الأولى لفاعليات 2011، ومن ثم انتقالها من مجرد حركات احتجاجات من جانب فئات محدودة العدد، حتى وإن كانت مرتفعة الوعي، إلى ثورات أو انتفاضات مليونية. وأقصد هنا على سبيل التحديد الدوافع الاقتصادية والاجتماعية للمشاركة في هذا الحراك وما أفرزته من مطالب، سواء منها ما هو اقتصادي اجتماعي مثل إيجاد فرص عمل، بخاصة من خلال التوجه الى إقامة مشاريع إنتاجية ضخمة وكثيفة العمالة، أو القضاء على البطالة أو على الأقل العمل من أجل الحد من معدلاتها، أو تدخل الدولة لتوجيه الأسعار في إطار معين، خصوصاً في ما يتعلق بأسعار السلع الأساسية للسواد الأعظم من الشعوب. أو ما هو اجتماعي بحت مثل كيفية العمل من أجل إعادة توزيع الدخل أو حتى إعادة رسم خريطة توزيع الثروة على نطاق واسع في المجتمع ككل، أو توفير الخدمات الأساسية للمواطنين البسطاء بحيث تكون في متناول أيديهم، خصوصاً الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والرعاية الصحية والسكن ووسائل المواصلات. ويؤكد ما سبق مركزية المطالب الاقتصادية والاجتماعية ومحورية دورها في أي شكل من أشكال الحراك الجماهيري العريض الذي يتم في أي من تلك المجتمعات العربية، سواء في ما سبق أو في الحالات الحاضرة أو في ما هو قادم من أشكال جديدة أو متكررة.
وهكذا اعتبرنا الذكرى الخامسة لما حصل في عدد من البلدان والمجتمعات العربية، مناسبة لطرح ما تقدم من تعليقات على أشكال أخرى لحراك الشارع في عدد من تلك المجتمعات أو في مجتمعات عربية أخرى خلال الفترة الماضية. مع إدراك أن المقارنة هي قياس مع الفارق، أخذاً في الاعتبار الفترة الزمنية التي تفصل بين المرحلتين وما شهدته من تحولات داخلية وإقليمية ودولية ذات صلة وتأثير. وأيضاً أخذاً في الاعتبار التباين الجغرافي بين مواقع الحراك في 2011 ومواقعه في 2015 وما مضى من 2016، بحيث تتعين مراعاة خصوصية حالة كل مجتمع وظروفه وسياق تطوره التاريخي ومساره المجتمعي.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة