ما لا نعرفه عن الفن الإيراني بعيدًا من ثقافة النظام المبتذلة
ننتبه كم أننا نجهل الثقافة الإيرانية، فالدولة لا تقترح إلا ثقافة الكيتش الثوري على شاكلة دم و"شهداء" وحمامات بيضاء فوق رأس الخميني.
بعد مرور عامين، على التجربة الأولى في عرض الرسوم التزيينية الإيرانية "Illustration" عادت غاليري "آرت لاب" ببيروت، لتقدم "المهرجان الدولي للرسم التزييني"؛ معرض جماعي لمنمنمات ورسوم ولوحات لأكثر من عشرة فنانين إيرانيين، إضافة إلى فنانَين لبنانيَين وفنانة إيرلندية وفنان فرنسي.
أكثر من مئة عمل على جدران الصالة، تقدم بسخاء تنوع العوالم الفنية وأساليبها وتقنياتها على نحو يشبع الفضول، ويثير الدهشة أمام تلك الحرية الكبيرة التي يتمتع بها هؤلاء الفنانون في خياراتهم وموادهم وتقنياتهم وألوانهم وموضوعاتهم ومرجعيات استلهامهم، رسمًا أو كولاجًا أو حبرًا أو أقمشة أو ورقًا أو طباعة أو تلوينًا بأقلام الباستيل.
بالنظرة الأولى، ننتبه بحسرة كم أننا نجهل الحياة الثقافية الإيرانية، بعيدًا عن الثقافة "الثورية" المبتذلة للنظام، أي أننا نرى هنا تلك الثقافة الإيرانية حقًّا، العميقة الجذور والواسعة، التي كانت متصلة -ولا تزال على الأرجح- بالحداثة المعاصرة والمعولمة معرفيًّا وتداوليًّا.
فإيران التي تجاورنا و"تشتبك" معنا بالمعنى السياسي والجغرافي، وتتقاسم معنا تاريخًا عريضًا، وتشاركنا إرثًا حضاريًّا ودينيًّا يمتد قرونًا، تبدو قصية وشبه مجهولة، خصوصًا في فنونها وثقافتها المعاصرة والحية.
فالدولة لا تصدر سوى تلك الصورة التي يؤلفها "الحرس الثوري" (الباسدران) و"الباسيج"، ولا تقترح سوى ثقافة الكيتش الثوري على شاكلة دم وورود و"شهداء" وحمامات بيضاء ترفرف فوق رأس الخميني.
ونحن ندرك هذه الهوة المعرفية والتثاقفية بين عالمنا العربي وإيران، منذ أن شاهدنا مثلًا تلك الأفلام السينمائية البديعة لجعفر بناهي، وعباس کیارستمي، ومحسن مخملباف، وابنته سميرة مخملباف، ومجید مجیدي.. كانت السينما الإيرانية، كصناعة فنية ثقيلة، تدلنا من غير لبس إلى وجود بنية ثقافية تحتية متينة وراسخة، تليق ببلد كبير المساحة والسكان، عريق الحضارة والتراث. هي إيران المجتمع الذي كان قبل "الخمينية"، صاحب التجربة الغنية في التحديث والتعليم والعمران والفنون.. إلخ.
ولذا، ليس غريبًا أن صناع تلك الأفلام والرسامين والكتاب والشعراء والمفكرين والروائيين والموسيقيين وجدوا أنفسهم في خضم انتفاضة 2009 (الثورة الخضراء) وبات معظمهم بعدها في المنافي.
هنا في التجارب التشكيلية الإيرانية التي نراها في بيروت، كفرصة نادرة للنظر والاكتشاف، نتعرف كما تعرفنا مع الأفلام الإيرانية، على ثقافة حقيقية تمانع نظام "الممانعة" الحاكم، تعاكس أيديولوجيته الدينية المغلقة، تناوئ شروط الملالي وعقليتهم، تتمرد على الثقافة الرسمية وتسخر منها، وتتحايل على منظومة الحلال والحرام الضيقة، التي يحاول نظام ولاية الفقيه قولبة إيران وحبسها فيها.
لذا، من البديهي أن يكون هذا المعرض ليس من تنظيم "المستشارية الثقافية الإيرانية" (التابع للسفارة)، بل هو هناك في غاليري "آرت لاب" الخاص، والكائن في شارع الجميزة، المشهور كواحد من معاقل الحياة العصرية بالعاصمة اللبنانية.
يشير صاحب الغاليري، انطوان حداد: "هنا الرسم يسرد القصص بلا نص". جاذبيتها تطال جميع الفئات العمرية، فالرسوم التزيينية غالبًا ما تتسم بروح طفولية، عبر اختيار الألوان والموضوعات والصفات الممنوحة للتشخيص والوجوه، لكنها تخاطب أساسًا البالغين بحساسية طفلية وتخيلات البراءة الأولى.
ما يفعله الرسامون الإيرانيون -في هذا المجال- هو إحياء فن المنمنات واستثمار طاقته التعبيرية و"التوضيحية"، أي قدرته على تأليف القصص ورويها، وتطويره بما ينسجم مع مكتسبات الفنون الحديثة وحريتها الشاسعة، نحن أمام "إحياء" فن ينتمي إلى تقاليد الفنون الإسلامية، وقد بات متداخلًا بسلاسة فائقة مع مقترحات الرسم الحديث وتقنياته الشديدة التنوع.
الفن هنا يأتي من ثقة عميقة ومعرفة أكيدة بالتقاليد التاريخية، فنانون تشبعوا بالمهارات القديمة، وأضافوا إليها الخفة اللازمة في التلقائية، والحرية الضرورية في الخيال و"اللعب" بالرموز والأشكال والألوان، رسوم تأخذنا إلى عوالم مختلفة جدًّا، بدءًا من الرموز الشرقية القديمة إلى متن ما بعد الحداثة، من عوالم الفروسية إلى مناخات فرانز كافكا، ومن أبجدية المنمنمة الفارسية إلى غرائبيات السوريالية الأوروبية.
صبا سليماني، صفا كسائي، زبيدة كاظمي، صهيب كشاني، حسن موسوي، حسن أمكان، محشد رحيمي، ميلاد خانواده، مريم طبطبائي، ناهيد كاظمي.. هم من جيل إيراني متمرد، ومتمرس في التعبير الفردي، ومتصل بأحوال العالم وفنونه، لكنه أيضًا شديد الصلة بثقافته المحلية، بخصوصية تقاليده وذاكرته الموغلة في الزمن.
اللوحات، تنبهنا إلى هذا التمكن الفني، بلا ادعاءات ولا استعراض أو استخفاف، فهي مثلًا صغيرة الحجم لا يلجأ فنانوها إلى تضخيم الأحجام بهدف الإبهار المزيف، هي مثال في الإتقان والتواضع والخبرة والدقة، ثمة أيضًا روح شاعرية في تصوير الواقع، في الاحتفاء الدائم بالطفولية والتلقائية.
مع هكذا معرض نقول: ثمة صورة لإيران مختبئة خلف "حجاب" نظام الملالي، صورة يجب أن نعرفها.. وأن نتصل بها.
aXA6IDMuMTQ1LjE4LjEzNSA= جزيرة ام اند امز