ابنتا نجيب محفوظ عثرتا على «أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة» (الجزء الثاني) مكتوبة بخط اليد ضمن أوراقه.
جاء رد دار الشروق المصرية حاسمًا ومقنعًا على اتهامات طالتها حول قلة المعروض من أعمال أديب نوبل نجيب محفوظ (1911-2006)، ثار جدل كبير بعد أن نشر كاتب مصري مقالا يكشف فيه عن نقص المعروض من أعمال الكاتب الكبير، لم يمر وقت طويل حتى أعلنت الشروق عن توافر كميات هائلة من كل أعمال محفوظ وعلى نطاق واسع سواء في مكتباتها أو مكتبات الغير.
لكن الرد الأكثر قوة جاء بنشرها ولأول مرة الجزء الثاني من كتاب محفوظ المذهل «أحلام فترة النقاهة»، في مفاجأة سارة وسعيدة لكل عشاق محفوظ ومحبيّه، تلك النصوص المدهشة العصيّة على التصنيف والتي حيّرت النقاد والمتخصصين في السرد ونظرية الأنواع الأدبية، لكن الجميع ودون أي خرق لهذا الإجماع قد جزموا بأنها من أروع النصوص الإنسانية على الإطلاق.
«أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة» هي الجزء الثاني من «أحلام فترة النقاهة» وتشتمل على 291 حلمًا جديدا، لم يسبق نشرها من قبل، وتظهر للنور لأول مرة في مفاجأة أدبية سارة، فضلًا عن نشر ملحق الأصول المخطوطة، وكلمة للكاتبة سناء البيسي، بعنوان «العودة إليه»، وكلمة لرئيس مجلس إدارة «الشروق»، إبراهيم المعلم، تحت عنوان «قصة هذا الكتاب».
قصة الأحلام/ الجزء الثاني
تعود قصة هذه الأحلام الجديدة إلى إعلان مفاجئ من ابنتي صاحب الثلاثية "أم كلثوم" و"فاطمة" بأنهما عثرا ضمن أوراق أبيهما على نصوص من «أحلام فترة النقاهة» لم تنشر من قبل، وهي عبارة عن أوراق مكتوبة بخط اليد كان محفوظ يمليها على "الحاج صبري" الذي كان يلازمه ويكتب له ما يريد، وهو الذي أملى عليه محفوظ كتاباته الأخيرة كلها، ولازمه منذ إصابة يمناه في حادث الاعتداء الإرهابي عليه.
قامت ابنتا محفوظ بالتوجه بهذه الأوراق إلى ناشر أعمال أبيهما، إبراهيم المعلم، وبقراءة هذه الأوراق وفحصها تبين أنها مجموعة من أحلام فترة النقاهة التي كتبها محفوظ عقب حادثة الاعتداء الإجرامي عليه في أكتوبر 1994، ويروي المعلم، رئيس مجلس إدارة الشروق في مقدمته للكتاب أنه زيادة في التحوّط ولمزيد من التيقن من نسبة هذه النصوص لمحفوظ وأنها مطابقة لأسلوبه ومطابقة أيضا لذات الخط الطريقة التي أملى بها محفوظ أحلامه السابقة على مساعده "الحاج صبري"، بحث عنه وتواصل معه وتأكد منه أن هذه الأوراق قد أملاها محفوظ بنفسه عليه وبذات النهج الذي كان يملي عليه أحلامه كلها.
أيضا عرض المعلم هذه الأوراق على صديق محفوظ وطبيبه المعالج الدكتور يحيى الرخاوي، والذي كان قد قدم دراسة مطولة عن أحلام فترة النقاهة، للتأكد من ماهية النصوص والتثبت من كونها أحلاما جديدة لم يسبق نشرها من قبل.
نصوص خارج دائرة التصنيف
«أحلام فترة النقاهة» التي ظهرت للمرة الأولى على صفحات مجلة «نصف الدنيا» المصرية، تمثل ما يشبه الخلاصة لتجربة أدبية فنية عريضة، متصلة بنتاج محفوظ السابق على كتابته لهذه الأحلام، لكنها وفي الوقت ذاته تحمل ملامح عدة جديدة ومغايرة لنتاجه كله، في هذه النصوص تظهر ملامح عدة، مكثفة، لعالم ممتد، جسده نتاج محفوظ السابق، كما تمثل جزءا أساسيا من مغامرة نجيب محفوظ الفنية الكبرى عبر الأنواع الأدبية المعروفة، حيث تتحرك هذه الأعمال بين حدود القصة القصيرة، والشعر، وما يجاوزهما أيضا.
«أحلام فترة النقاهة» عبارة عن مجموعة من الأحلام المكثفة (تم ترقيمها)، لكنها مع ذلك شديدة الواقعية، فكلما غاصت الأحلام في الخيال كلما امتدت إلى عمق الواقع، وأوغلت فيه؛ لترى مشكلاته وأزماته وتعرضها في ثوب حلمي، شديد الرمزية، ومع ذلك جاءت تلك الأحلام غاية في البساطة والعمق، توظف الرمز لكنها في أغلب أحلامها غاية في الوضوح، فإذا فهم القارئ تلك اللعبة الفنية التي وظفها محفوظ بغوصه في الواقع، أصبح من السهل عليه فهم ما يدور بكل حلم من الأحلام من أفكار ورؤى.
نصوص الأحلام تتمتع ببنية مراوغة، لا تهدأ ولا تستقر في قالب نوع أدبي محدد، بل إنها تأخذ من كل نوع أدبي ما يناسبها، وتنفرد بخصوصيات تميزها عن الأنواع الأدبية السابقة عليها، ومن ثم كان لتلك البنية خصوصية في التعامل مع التقنيات السردية، سواء الأحداث أو اللغة والشخصيات والمكان وكذلك الزمن.
سيجد قارئ الأحلام نفسه في مواجهة عالم مغاير وشخوص تختلط في عقلها كل النظم والأفكار الحالمة عبثا بحياة عادلة ومتوازنة، ربما كانت المشكلة الأعظم التي تواجه راوي هذه الأحلام (هنا محفوظ نفسه) أنه لم يكتشف أن مأزق الإنسان في داخله، في حيرته بين العقل والغريزة، بين قدره وحريته، وبين قدرته ورغباته، وهو مأزق يستعصي على الحل، رغم جسارة الراوي/ محفوظ العظيمة، بحثا عن ضوء في قلب ليل الوجود البهيم.
في هذه النصوص شديدة التكثيف والاختزال، يراوح محفوظ بين بين الواقعي والمتخيل، فبعد أن كان نجيب محفوظ يتخذ من أرض الواقع مكانا فسيحا لكتابة أعماله، نجده في هذه الأحلام يتحرك بين الواقعي والمتخيل، أو يزاوج بينهما، وقد كان هذا التزاوج سببا في إخراج هذه المجموعة من النصوص المكثفة تمتاز بالعمق.
منطق الحلم والفانتازيا أحد الأعمدة الأساسية التي تسود الأحلام، فقد ركز محفوظ على منطق الحلم في التعامل مع الأحداث والشخصيات والزمان والمكان، فكان للحلم آلياته وطريقته ولغته الخاصة في سرد هذه الأعمال، وذلك بموازاة منطق التحول الفني الذي يشمل تحولات الزمن والمكان، وتحولات الأحداث، وتحولات الشخصيات.
كل هذا يسير جنبا إلى جنب مع خاصية "التجريد" على مستوى صياغات الزمن والشخصيات، وتجلّي الرؤية الصوفية في واحدة من أنصع وأبهى وأنقى صورها الفنية، وحضور البعد الأليجوري "الرمزي"، وشيوع منطق الثنائيات: ما بين الحياة والموت أو بين التذكر والنسيان أو بين الثابت والمتغير أو بين الغنائية والسرد، وكذلك التنوع الهائل في التعامل مع الزمن.
وسيلحظ قارئ الأحلام حضور عدد من المفردات الأساسية، الثابتة تقريبا، في العالم السردي لها، مثل: البيت القديم، المرأة، الدنيا، الموت، الطبيعة.. إلى غير ذلك من المفردات التي يعبر تنوعها عما يمكن تسميته بـ"الوجود البيني"، أي التي تقع على الحافة بين عالمين، مثل: الفجر، الغسق، الغبش، الظلمة، الوسط.. وغيرها.