الأحزان الجماعية «تحت السما» السورية
تدور المسرحية حول أم تفقد أبناءها الأربعة وزوجها ما بين اعتقالات واقتتالات دائرة بين قوى النظام والفصائل الموجودة على الأرض في سوريا.
واقع سوري مرير، معقد ومكثف ومتداخل، تحكي عنه أحداث مسرحية «تحت السما» للكاتبة فاديا دلا، وإخراج ماهر الصليبي، والتي عرضت على مسرح الفنون بمول الإمارات في دبي، على مدى اليومين السابقين.
المسرحية ترصد المونودراما للواقع السوري المؤلم من خلال عرض واحدة من الحالات الكثيرة التي تعج في المشهد السوري الحالي، فالبطلة حياة (الفنانة يارا صبري) أم تفقد أبناءها الأربعة وزوجها، ما بين اعتقالات وقنص واقتتالات دائرة ما بين قوى النظام والفصائل المختلفة الموجودة على الأرض.
تعيش الأم في أنقاض بيتها أو ما بقي منه "تحت السما"، في حالة من الجنون والحزن المؤلمين اللذين يتأججان على الخشبة عندما تحكي حكاية اعتقال ابنتها "شام" أثناء عودتها من المدرسة مع زميلاتها، تتحدث مؤلفة العمل فادية دلا عن كتابتها لهذا الجزء من النص وهي تبكي، تقول: "كتبت هذا الجزء بمنتهى الانفعال، شعرت أنني الأم، وأني فقدت ابنتي، لم أكن أضع نفسي مكان الأم، بل كنت أنا الأم التي فقدت ابنتها الوحيدة، وكان ألمي حقيقيًّا إلى حد أنني لم أتمكن من التوقف عن كتابة هذا المشهد حتى نهايته".
عن تجربتها الأولى في كتابة نص مسرحي، تقول دلا: "أشكر المخرج الفنان ماهر صيلبي على جرأته لتقديم نصي الأول على خشبة المسرح، فما كتبته سابقًا لم يرَ النور، في حين أن هذا العمل وصل الخشبة، ووصلها رفقة فنانين مبدعين هما يارا صبري وماهر صليبي".
على سطح الدار، و"تحت السما" الزرقاء، تسترجع البطلة حياة لحظات حياتها الأثيرة أو الأكثر ألمًا، من لحظة اعتقال الزوج نتيجة "خروجه عن منهاج التعليم وتعليمه ما لا يجب للطلاب"، إلى لحظة خروجه من المعتقل، وإلى عودته ثانية إلى المعتقل مع الأحداث الحالية، لكن هذه المرة نتيجة لكونه "صاحب سوابق".
وعلى عمود آخر من بقايا الأعمدة، تستذكر حياة والدها المهرّب الذي كان يدفع الرشوة "من أصغر عنصر إلى أكبر ضابط" لتأمين التهريبة؛ فمن خلال شخصية الأب/المهرب يضيء نص "تحت السما" على بعض حالات الفساد التي كانت، ولا تزال، سائدة في سوريا، وأوصلت بشكل أو بآخر، بحسب المؤلفة دلا، إلى حالة الحراك الثوري في سوريا.
نعود أيضًا مع الأم إلى علاقتها الحميمة مع ابنتها الوحيدة، فلا يطيب فنجان القهوة إلا "من تحت إيديكي يا أمي"، وبعد فنجان القهوة، تأتينا لحظة اعتقال "شام"، لتكون أقسى وأوجع من ألم اعتقال الزوج، وتجلجل صرخات حياة على المسرح: "شام ما عملت شي" "شام ما دخلا"، ونعيش مع حياة حسرتها على عدم توفر البندقية في تلك اللحظة لتتمكن من الدفاع عن طفلتها.
وبين فلاش باك وآخر، وبين لعلة رصاص وضحكات ممسوسة بالجنون، تأتينا مواويل وأغنيات بصوت وألحان الفنان الشاب كرم صليبي ابن مخرج العمل، لتطوّح بنا ما بين أشجان وآلام الموت اليومي لآلاف السوريين منهم من يقضي برصاص، ومنهم من يغرق في بحار هجرة عاتية الأمواج. خدمت الجمل الموسيقية العرض بصورة كبيرة فكانت بمثابة مشاهد إضافية، لا تقل قيمة فنية عن المشاهد المسرحية.
فريق العمل أجمع على أن رسالة العرض، الغرض النهائي منه، تصرخ "نحن السوريين نرفض القتل، ونريد السلام، ولهذا قدمنا البندقية التي كانت تشاغل البطلة طيلة الخمسين دقيقة، قدمناها في النهاية على أنها مجرد لعبة".
اشتعلت صالة المسرح عن بكرة أبيها بالتصفيق مع حرقة استلام الأم لجثمان ابنها الشهيد الذي كان ضمن الجيش السوري النظامي، وعندما طرحت سؤالها المشروع: "شهيد؟ شهيد كيف؟ مو ليكون في عدو؟"، ثم سألت بقهر سؤالها الثاني: "ترى هل أردتكَ رصاصة أخيك الذي حمل سلاحه ويحارب الآن في الجبهة المضادة؟".
انعكس تفاعل الجمهور بالعرض تصفيقًا وتهليلًا في مواقف كثيرة، ما ترك أثره الكبير على المخرج ماهر صليبي: "قدرة الجمهور على التفاعل بهذه الكثافة مع العرض يعني أن العمل نجح في الوصول إلى الجميع، وأننا تمكنا من نشر ضوء صغير لوجع كبير، صحيح أنه من غير الممكن تسليط الضوء على جميع جوانب الوجع السوري، فهي متنوعة وكثيرة، لكن يمكننا من خلال أعمال كهذه تسريب ضوء خفيف يضيء آلام السوريين، وإسماع صوتنا للعالم".
في "تحت السما" استخدم صليبي تقنيات مختلفة وحلول متنوعة؛ منها ديكور المسرح الذي يخدم غاية العرض، من أعمدة مهدمة وبيت منهار يعكسان انهيار حياة البطلة التي لم تحتمل فقدانها لأعمدة بيتها من زوج وأبناء، فانهارت ووصلت إلى حافة الجنون.
تمكن المخرج من الإمساك بإيقاع النص والإبقاء عليه مشدودًا ومتماسكًا على الرغم من عمله مع ممثلة واحدة فقط على الخشبة، من خلال الحلول الدرامية التي أوجدها مثل السينوغراف، وإن كانت مؤرقة له نظرًا للتحديات المصاحبة لها تقنيًّا وماديًّا، كما بحث عن حلول إخراجية للعرض بصورة شاملة، ومن ثم الحلول المشهدية.
يقول صليبي "يتحدث النص عن تذكر الأم لابنها، فأوجدتُ أنا كمخرج حلًّا دراميًّا سينوغراف، وشخصيات متخيلة على أعمدة السطح .. كل ما يحدث على السطح هو فقط استحضار لما يدور في رأس البطلة، فعندما تبدأ بتخيّل الشخصية، تظهر أمامنا على العمود".
aXA6IDE4LjExOS4xMTMuNzkg جزيرة ام اند امز