مظفر النواب .. هل ننتظر رحيله لنقيم قداسًا؟
انتشرت صورته كالنار على "فيس بوك" بنحوله الشديد فاتجهت الأنظار إلى العراق لإنقاذ شاعره الأكبر مظفر النواب الذي يعاني من الزهايمر.
يقول الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير: "كلمة مدح تُقال لي خير من ألف كتاب يُكتب عني بعد موتي".
"مرة أخرى على شباكنا تبكي .. ولا شيء سوى الريح .. وحبات من الثلج على القلب .. وحزن مثل أسوق العراق .. مرة أخرى أمد القلب .. بالقرب من النهر زقاق .. مرة أخرى تحني نصف أقدام الكوابيس ..بقلبي ..".
يعيش الشاعر العراقي مُظفّر النواب (مواليد 1934) حاليًّا أسوأ أيامه عقب إصابته بمرض الزهايمر وأمراض جسدية أخرى، ويعاني من ظروف قاسية دفعت محبيه إلى إلقاء اللوم على الحكومة العراقية لتركها صاحب أبرز القصائد التي هزّت العالم العربي طريح الفراش.
ابن بغداد ودمشق وبيروت يرقد مريضًا الآن، وينازع، إذ ظهر في صورة مؤلمة تداولها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو فيها نحيلًا ضعيفًا لا حول له ولا قوة، لا جسديًّا ولا ماديًّا، بحسب آلاف التعليقات المتفاعلة التي ناشدت لإنقاذه قبل أن تنال منه يد الموت.
مَن يقرأ سيرة الشاعر العراقي لن يصدق أنه سُجن سنوات بعد أن حاول الهرب من ملاحقة الشيوعيين في عام 1963، إلا أن المخابرات الإيرانية قبضت عليه وسلمته للأمن العراقي، ومن حكم الإعدام إلى المؤبد؛ فالهروب من السجن، بدأت رحلة مظفر بين دمشق وبيروت وبعض المدن الأوروبية.
شاعر الثورات .. حين يهز الحرف الوجدان:
وصف النقاد مظفر النواب بـ "شاعر الثورات"، وهو الذي يختار مفرداته بعناية فائقة ويضعها في مواقف وجمل جزلة لا توازيه فيه أي تجربة شعرية سابقة، ما اعتبره كثيرون "طفرة" في الشعر السياسي.
يستخدم النواب صورًا شعرية هي أشبه بالحكايات البسيطة التي تعتمد على أسلوب اللحظة الواحدة وأحيانًا كثيرة "الصدمة"، ومن الممكن قراءة شعره للشرائح العمرية المختلفة ويفهم الجميع مغزاها بكل يسر.
من "الخوازيق" إلى "قمم"، ومن "بيان سياسي" إلى "باب الكون"، ومن "ثلاث أمنيات" إلى "موت عصافير"، ومن "أفضحهم" إلى "زرازير البراري"، ومن "القدس عروس عروبتنا" إلى "رحيل"، مراوحًا بين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى، أبدع النواب في رسم كلمات تشرب وتأكل وتؤثر ولا تتأثر.
ولأن البُعد الإنساني كان الطاغي في أغلب قصائده، كانت الحياة الشعرية في قصيدة النواب لها دورة كاملة من الروعة والجمال والدهشة، أو ما يمكن تسميتها بالعناصر الأساسية في الرواية؛ المتعة والدهشة والإقناع.
وسط هذه العناصر، لا يمكن الحديث عن شعر النواب، إلا والقلم كالسكين يغرز في الجرح عميقًا ويضع المزيد من الكحول على الدم ريثما تتحقق معجزة تتمثل في شفاء المريض "الشعري" أو ربما تتحقق نهايته التراجيدية بكثير من اللوعة.
"الثورة" ليست خيمة فصل للقوات:
"فالثورة ليست خيمة فصل للقوات .. ولا تكية سلم للجبناء"، هكذا تمشي روح الثورة في أجساد الثوار، وتتكلم البندقية في حروف النواب بكثير من الثقة المطلقة في واقع هو نفسه كان مستاءً منه، ويتجسد ذلك في محبوبته فلسطين "لا تنسوا أن سلاح الكحالة ضد فلسطين جميعًا .. جزء أو أجزاء .. كشف البطل اللعبة .. أما التفتيش .. فما كشف شيئًا في الأشياء".
هي الحروف حين تتكلم بالهمّ العربي والقضية الفلسطينية في قصيدته الشهيرة "بيان سياسي" إذن، لكن كيف تسير رحلة الشعر عند مظفر النواب؟ وعلامَ تتغذى أبياته وهو من النادرين الذين يكتبون بالفصحى والعامية معًا؟
تبدو "الخوازيق" الأكثر جرأة وقوة في وجدان في عالم مظفر النواب الشعري؛ القصيدة التي صُنفت من كنوز الشعر العربي. لم ينتظر النواب أي عنصر من المفاجأة لتأخذ قصيدته طريقها إلى الوضوح، إلا أنه كان يمعن النظر والتأمل في كلماته التي تأتي حادة كالسيف قوية كالإعصار، وبين القوة والحدة تبدو الحياة التي يغضب لأجلها الشاعر آيلة للسقوط من على منحدر أبرز القصائد التي عرضته للكثير من المضايقات، حيثما حل، رغم أنه عاد إلى بغداد في عام 2011، وبقي فيها إلى الآن.
نهايات تراجيدية كالقصائد:
بعد الحالة الصحية المتردية التي وصل إليها مظفر النواب، يتخوف جمهور الثقافة على مصير المثقفين عمومًا، منددين بالسياسات الثقافية التي تقيم قداسًا للميّت بعد موته ولا توليه أي اهتمام وهو حي، الأمر الذي يفتح مائدة النقاش واسعة على واقع مأساوي تُرسم في مصائر المثقفين في العالم العربي بكثير من الأسى.
هذا واحد من الملفات التي فتحتها مؤخرًا ظروف عصيبة مر بها مثقفون سبقوا النواب ولم يلحظوا الاهتمام الكافي، فما الذي يفيدهم بعد موتهم، لا ثناء، ولا شكر، لا تقدير، لا جائزة، لا استحقاق..
الأمل كبير في ألا تتشابه مصائر المثقفين كما قصائدهم.