الإدمان.. ابن شرعي لمآسي الحرب والخراب في سوريا
النسيان هو هدف الجميع، وأعمار من يطلبون الأدوية المخدرة من الصيدليات تتراوح بين 13 و35 عاما، مع تساوي نسبة الفتيات والشبان.
بعبارات "أزمة وتنتهي"، "قربت"، "الله يفرجها" يحاول السوريون الهروب من الواقع الجديد الذي دخل حياتهم عنوة، والظواهر الغريبة التي أنبتتها الحرب بين أبنائهم، أما البعض الآخر فبات يتناول تفاصيل الحياة البشعة بسخرية واستهزاء شديدين، بداية من الأحداث السياسية والتطورات الميدانية ومرورا بما نتج وسينتج عن هذه الحرب، وصولا إلى أزمة الكهرباء وغلاء الأسعار.
ويرفض الكثيرون التعود على نمط الحياة هذا، فيما يحاول البعض التكيف بصورة أو بأخرى في هذا الواقع المفروض عليهم، لكن كل بطريقته.
لست مدمناً
سالم محمد لا يريد من الحياة سوى النوم لخمس ساعات متواصلة، فيقول: "منذ ثلاث سنوات وأنا أجاهد حتى أتمكن من النوم، إلى أن ضعف جسدي وصرت أعاني من فقدان الوعي نتيجة الإرهاق الشديد"، متسائلا "هل أصبح النوم أيضا هو ذلك الأمر المستحيل؟".
سالم الطالب في كلية التجارة بـ"جامعة دمشق"، ويتوقف تخرجه على فصل دراسي واحد يقول: "نزحنا من منزلنا الذي تهدم لاحقاً، واستشهد أخي الأصغر أمام عيني، ولم أتمكن من سحبه ودفنه بسبب كثافة نيران القناصة، وخُطف والدي قبل سنتين، وطلب الخاطفون مبلغا كبيرا من المال لم نكن نقدر على سداده، ولم نعد نعلم شيئا عن مصير والدي".
يعيش سالم الآن مع والدته وإخوته الثلاث في غرفة واحدة، ويتشاركون الحمام والمطبخ مع عائلة أخرى تقطن في الغرفة المقابلة من نفس البيت. ويقول: "أنا المعيل الوحيد لأسرتي، تركت دراستي وعملت بكل الأعمال من عتال إلى عامل أدوات صحية (سباك) إلى مندوب مبيعات جوال كي أتمكن من تدبير نفقات العائلة، كنت أتعب كثيرا، ومع ذلك فالأرق كان يلازمني منذ تلك الأيام العصيبة، لكن صديقا لي رشح لي أحد أنواع الأدوية التي توصف كمسكن للألم مؤكدا لي أنها الحل الوحيد لمشكلتي مع الأرق وأنها غير مؤذية على الإطلاق".
ومنذ ذلك اليوم يعتمد سالم على هذه الأقراص كي ينعم ببضع ساعات من النوم فهي كما وصف "مصرح بها من وزارة الصحة ورخيصة الثمن وسعر العلبة الواحدة لا يتجاوز 400 ليرة سورية (أي حوالي دولار واحد)".
ويختم سالم بأنه أصبح يتناول عدة أقراص يوميا، ويفضل أن يصبح مدمنا عليها على أن يفقد عقله بالكامل.
شركاء في الجريمة
أمام غياب طرق العلاج السريرية في المناطق والمدن المحاصرة في سوريا، يفيد ناشطون بأن المسكنات المركزية والأفيونية (التي تعمل على تثبيط الجهاز العصبي المركزي) أضحت أحد أكثر العقاقير طلباً من قبل المرضى والمصابين، لجهة تسكينها الآلام الناتجة من إصابات القصف وشظاياه.
أما بالنسبة للعاصمة دمشق وريفها، وبشكل خاص المناطق التي استقبلت مهجرين، انتشرت ظاهرة الإدمان على العقاقير الطبية المهدئة، بحسب عدد من الصيادلة العاملين في منطقة دمر، وقدسيا.
وعن ارتفاع أعداد الأشخاص الذين يضطرون لشراء أدوية مهدئة ومسكنة دون وصفة طبية، يقول الصيدلاني عبد السلام اسماعيل: "في السابق كان هناك عدد قليل جدا ممن يدمنون تناول أدوية معينة، خاصة تلك المهدئة أو التي تساعد على ارتخاء الأعصاب، لكن منذ أكثر من سنتين زاد الطلب على بعض الأدوية الرخيصة التي تصرف عادة دون وصفة طبية".
وتتراوح أعمار من يطلبون هذه الأدوية، بحسب إسماعيل، بين 13 و35 عاما، مع تساوي بين نسبة الفتيات والشبان الذين يطلبون هذا الدواء.
ويمتلك إسماعيل القدرة على التمييز بين المرضى الفعليين والمدمنين على هذا النوع من العقاقير، ويتابع: "يتصرف المدمن بعدوانية ملحوظة، لذا نرفض بيعه هذه الأدوية مع أنها من الأدوية المسموحة، فيلجأ المدمنون لإرسال ذويهم، أو أصدقائهم لشراء الأدوية، لكن بعد فترة يصبح الجميع مكشوفين بالنسبة لنا".
وعن نسبة طالبي هذه الأدوية، يؤكد إسماعيل أن نسبة الأشخاص الذين يشترون الأدوية المهدئة تصل إلى 15% من الزبائن وتختلف النسبة حسب الكثافة السكانية في كل منطقة، لكن النسب الأعلى سجلها الريف الدمشقي.
فيما قال لنا الصيدلاني عبد الحميد الجلاد: "للأسف توجد صيدليات تبيع بعض العقاقير دون معرفة العواقب الوخيمة لها ومضاعفاتها".
ويرجح الجلاد أن سبب انتشار الظاهرة يعود إلى تأجير عدد كبير من الصيدلانيين شهاداتهم الجامعية لأشخاص غير مؤهلين لهذا العمل أو لأقاربهم كي يستفيدوا من مورد الرزق هذا، لكن "العواقب فاقت الفوائد".
صيادلة دون شهادات
وتفيد تقارير وإحصائيات صادرة عن وزارة الصحة السورية أن من بين كل خمس صيدليات في المناطق الريفية توجد صيدلية واحدة فقط يديرها شخص حاصل على شهادة صيدلة (بعد استطلاع 350 صيدلية في دمشق وريفها).
فيما يدير باقي الصيدليات في الريف، طلاب ما زالوا يدرسون في كلية الصيدلة، ومن حملة شهادات معهد طبي، وهؤلاء ينافسون خريجي كلية الصيدلة في فرصة إدارة صيدلية ما لرخص أجرهم مقارنة بالخريجين.
ويضيف التقرير أن بعض الصيدليات أيضا، لا سيما في المناطق النائية، يديرها حاملو شهادات من المعهد التجاري أو الأدب الإنجليزي وغيرها من الشهادات التي لا تمت للطب أو الصيدلة بأي صلة.
الأدوية الأكثر طلبا
أما الأدوية التي تشهد إقبالا مرتفعا، فيقول جورج حداد، وهو صيدلاني يملك صيدليته الخاصة في إحدى ضواحي دمشق: "تأتي العقاقير المرخية للأعصاب في المرتبة الأولى، ثم مسكنات الألم بكافة أشكالها، الكبسولات والشراب".
ويضيف جورج أن عددا كبيرا من الأشخاص قد يلجؤون لتناول مشروبات ومواد مسكرة إلى جانب الحبوب المهدئة كي يزيدون من فعالية العقاقير التي يتناولونها، مؤكداً أن سبب إدمان معظم من يتناول هذه العقاقير هو الرغبة في تخطي مشاكل الظروف الاجتماعية والنفسية الصعبة التي تمر بها البلاد، "حيث لم تكن هذه الظاهرة منتشرة بالكثافة التي نراها اليوم".
بالأرقام
وتشير الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية السورية إلى أن الوزارة ضبطت عددا من الشبكات التي عملت على تهريب وترويج المواد المخدرة داخل سوريا، كما ضبطت خلال عام 2014 نحو 528 كيلوجراما من مخدر الحشيش، و27.5 كيلوجراما من مخدر الهيروين، وكمية أخرى من الكوكايين، فضلا عن 4066 كيلوجراما من مواد أولية تستخدم في صناعة الحبوب المخدرة، ومليونين و876113 حبة كبتاجون مخدرة، و 1656 كيلوجراما من مادة الماريجوانا، و25 كيلوجراما من مخدر الأفميتامين، و25 كيلوجراما من انهدريد الخل، و15 جراماً من الأفيون المخدر وطناً من بذور القنب الهندي ذات المفعول المخدر.
ولا يقبل السوريون إدمان العقاقير المهدئة لهدف الاسترخاء أو من باب الرفاهية، بل هو أمر بات ضروريا لدى البعض للاستمرار في الحياة، وبحسب أحد الاختصاصيين الاجتماعين والذي رفض الإفصاح عن اسمه، فإن "الإدمان الذي نشهده اليوم هو أمر طارئ على المجتمع السوري وسيختفي مع اختفاء الأسباب التي أدت لوجوده".
ويعيش السوريون العام السادس من الحرب في بلادهم، في ظل واقع مؤلم ومدمر لملايين السوريين، فمنهم من يئس من الموت والدمار، ومنهم محاصر تحت الجوع والمرض، واليوم نبتت أيضا مشكلة جديدة تقصم ظهورهم ألا وهي الإدمان.
ويرجّح الأطباء زيادةً مستقبليةً في عدد "المدمنين" والسبب، تبعاً لطبيب الأعصاب، أحمد الهواري، هو "التأثير طويل الأمد لمخلّفات الحرب، والضغوط النفسية التي يتعرض لها المواطنون يوميا جراء فقدان شخص مقرب، أو منزل عزيز أو أي شيء له خصوصية في حياته.. وما أكثرها".
aXA6IDE4LjExOS4xNDEuMTE1IA==
جزيرة ام اند امز