كانت ثورة يناير 2011 في جوهرها ونتائجها ثورةً من الشعب المصري على نفسه، أكثر من كونها ثورة سياسية على النظام
كانت ثورة يناير 2011 في جوهرها ونتائجها ثورةً من الشعب المصري على نفسه، أكثر من كونها ثورة سياسية على النظام، وكان شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» أمنية لم يستطع الشعب تحقيقها إلا بإنحياز الجيش المصري لإرادته، وتدخله بحكمة بالغة لإقناع الرئيس مبارك بالتنحي، لذلك كانت نتائج ثورة الشعب مقصورة على الشعب ذاته، فقد استطاع الشعب إسقاط ضعفه وخوفه وخنوعه، واستطاع التخلص من ثقافتة السلبية، ونزعاته الأنانية، واستطاع أن يدرك قيمة التكاتف والعمل الجماعي لذلك كانت ثورة الشعب على الشعب أكثر منها على النظام نفسه.
وكانت ثورة 30 يونيو 2013 ثورة على قيم الدروشة والسذاجة والانخداع باسم الدين ومظهره، فالشعب الذي جاء بالإخوان والسلفيين هو ذات الشعب الذي خرج بالملايين للتخلص ممن نصبوا عليه بشعار الدين، ورموزه المقدسة، وتكرر نفس السيناريو من تدخل جيش مصر لإنقاذ مصر من حرب أهلية كانت في طور الإنضاج في عواصم عالمية وإقليمية، ولكن للإسف افتقد الرئيس مرسي ومن ورائه وأمامه الحكمة التي دفعت مبارك للرحيل في صمت فكان ما كان.
فثورة الشعب المصري في كلتا الحالتين كانت ثورة على الذات، وعلى الثقافة، وعلى القيم السلبية التي رسمت ملامح الثقافة السياسية المصرية، ولم تكن أى منها ثورة سياسية حقيقية ذات وجهة وقيادة وخطة وبرامج، وقد أدى ذلك إلى ظهور طبقة من النصَّابين والانتهازيين والدجَّالين من المثقفين والحركيين ومرتزقة منظمات المجتمع المدني؛ الذين تعودوا على الارتزاق من مآسي المجتمع والناس، والإتجار فيها على شاشات الفضائيات، وفي أروقة المنظمات الدولية، والمؤتمرات الممولة من منح وهبات خارجية، تحرك هؤلاء لقطف الثمار، ولم يدركوا أن الشعب المصري لم يزل في مرحلة نفض الغبار الاجتماعي عن الذات الثقافية المثقلة بقيم سلبية رسختها عصور متراكمة من حكم المماليك والشركس ورعاع الترك.
المجتمع المصري لم يعش في تاريخه ممارسة سياسية حقيقية إلا مع ثورتي مصطفى كامل وسعد زغلول 1906-1919 وهذه كانت ثورات وطنية لطرد المستعمر الأجنبي، ولم تكن فيها أي ممارسة سياسية أو خطاب سياسي يتعلق بالحكم والسلطة وإدارة الشأن العام، ثم جاءت المرحلة الليبرالية 1923-1952 وهي الفترة الوحيدة التي انخرطت فيها نخبة من المصريين في تجربة سياسية حقيقية، بكل مزاياها وعيوبها، ولكن كانت مدرسة لتعليم الشعب كيفية التعاطي مع العملية السياسية بكل أبعادها، ثم انتهت هذه التجربة بالعودة مرة أخرى إلى الشأن المجتمعي على حساب الشأن السياسي، وعاد المجتمع ينشغل بالحاجات الأساسية، وبالتنمية والتعليم والصحة، وبكل ما يحقق العدالة الاجتماعية.
وبعد عشرين سنة من بداية هذه التجربة المجتمعية الناجحة دخل الشعب المصري في التيه والتوهان لمدة أربعين سنة؛ مثل تيه بني إسرائيل بعد سيدنا موسى عليه السلام تاه المصريون في مجتمعهم ودولتهم، ولم يعودوا يدركون إلى أين يسيرون؟ أو ماذا يفعلون؟ الكل نهَّابون نهَّاشون هبَّاشون، الكل يريد الخلاص الفردي، والثراء السريع حتى ولو على حساب أقرب الناس إليه، فطٌرِدَ الآباءُ والأمهات من الشقق حتى يتزوج الأبناء، وقُتِلَ الأزواجُ حتى تصفو الأجواء للزوجات، وانتشر الغش والرشوة والفساد، وظهرت جرائم غير مسبوقة ولم تزل، وأصبحت التجارة في الأرواح من أكثر وسائل تضخيم الثروات إقبالا من قبل علية القوم: طعام فاسد وشراب مسموم وسرقة أعضاءه.إلخ.
ثم جاءت ثورة يناير 2011 لتعيد الشعب المصري إلى روحه السليبة، لتصحح مساره الذي انحرف في سنوات التيه الأربعين، ولكن تجار الكلام من طبقة المثقفين والناشطين سياسيا أصروا على تضليل الشعب وحرف مساره، فنفخوا في أذنيه أنه قام بثورة سياسية، وأنه هو الذي أسقط النظام، وأنه هو الذي يحق له حكم البلاد، وأنه لابد من أن يحصل على ثمن الثورة، فتصور كل مواطن مصري أنه الأجدر بقيادة مصر، والأقدر على ذلك، وتفجرت شهوة الحكم والسلطة والسيطرة في القلوب، وتضخمت الذوات المريضة، وتصاعدت الطموحات، وتحول كل مغامر انتهازي إلى ناشط سياسي، وصارت السياسة مهنة العاطلين والفاشلين والنصَّابين، فجاء مجلس الشعب التالي للثورة ليعكس صورة قبيحة لمصر وللإسلام، وكان من قبحه وقباحته ما يعرفه القاصي والداني، ثم جاءت انتخابات رئاسة الجمهورية 2012، ولأول مرة في تاريخ مصر تسقط هيبة الرئاسة، فيترشح لمنصب رئيس مصر مئات الأشخاص الذين لا يصلح معظمهم لإدارة بيته، ناهيك عن الحارة التي يعيش فيها، أو الكفر الذي جاء منه، ترشح فيها المجانين والمرضى وكل العاهات الاجتماعية، ولم تكن نتائجها أفضل من مقدماتها، وكان فيها ما كان.
وبعدها انصرف المجتمع عن السياسة ورجع لحالته التاريخية من السلبية والزهد في العمل السياسي، وتركه للمحترفين من المثقفين وأبناء العائلات التاريخية، لذلك كانت نسب المشاركة في كل الانتخابات التالية أقل بكثير من الحالتين الأولين، وللأسف لم يستطع علماء السياسة وتجارها قراءة المشهد بصورة صحيحة، ولم يزل يرددون نفس رطانة الثورة، والشعب يريد، وهم لا يدركون أن الشعب دخل في قوقعته التاريخية، وانصرف للانشغال بالهموم الشخصية، لذلك لا تجد اليوم إلا المطالب الفئوية، ولا تجد تلك الجذوة الوطنية المشتعلة التي أضاءت أرجاء مصر بعد ثورة يناير 2011، ولا تجد من يكلمك في الشأن العام بصورة وطنية تعلي هموم الوطن ومستقبله، الكل غارق في سلبيات الكل، والكل ينتقد الكل، والجميع يكره الجميع؛ ويتمنى فشله.
وانتهينا إلى أن أصبحت مصر في حالة تشتت وفوضى لا تستطيع معها أن تنظر للمستقبل، أو تشعر بلذة الأمل، أو تتطلع لغد أفضل، أو تحلم فقد استطاعت الطبقة السياسية والثقافية والإعلامية تدمير كل شىء في نفوس المصريين، وإرجاعهم إلى حالة البؤس واليأس التي عاشوها في سنين التيه الأربعين مع السادات ومبارك لذلك تجد الشعب المصري لا يستطيع أن يرى الإنجاز كبيراً أو صغيرا، حتى وان كان يستخدمه ويستفيد منه، ويبحث عن مواطن الخلل حتى يتخذ منها ذريعة لإثبات فشل الآخرين، أصبح المصريون مدمنين على السلبيات، لا يرون غيرها، ولا يستطيعون غير ذلك.
ولم يكن الموقف من خطاب الرئيس في حفل إطلاق رؤية مصر 2030 إلا نموذجا لحالة يمكن أن نطلق عليها «الشعب يريد إسقاط الشعب»، وقفت الطبقة الثقافية والسياسية عند كلمات عاطفية خرجت بصورة عفوية عاطفية، وما كان ينبغي أن تخرج، ولكن الموضوع الذي خرجت في سياقه أخطر، إنه الخطة التي سوف تسير عليها مصر لخمس عشرة سنة قادمة.. لم يناقشوا الرؤية ولا محتواها ولا أهدافها ولا صلاحيتها وانشغلوا بكلمات عاطفية لا علاقة لها برؤية مصر 2030.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة