تعانى مراكز البحوث والتفكير الاجتماعية فى مختلف بلداننا، من مشكلات حقيقية تؤدى فى النهاية إلى تراجع قدراتها المفترضة على المساهمة
تعانى مراكز البحوث والتفكير الاجتماعية والسياسية فى مختلف بلداننا العربية، على قلة عددها، من مشكلات حقيقية تؤدى فى النهاية إلى تراجع قدراتها المفترضة على المساهمة فى المهمتين الرئيسيتين المنوط بها إنجازهما، وهما: التعرف الدقيق على الظواهر والقضايا الرئيسية المتعلقة ببلداننا فى الداخل والخارج، والمساهمة فى صياغة سياسات وبدائل للتعامل مع تلك القضايا سواء من جانب المجتمع أو الدولة أو النخبة.
والحقيقة أن المشكلة الأكبر المتعلقة بالمراكز الموجودة فى العالم العربى هى وجود تلك المراكز نفسها، حيث يبلغ عدد الحقيقى والجاد منها فى كل بلدان هذا العالم بضع عشرات، بما لا يتناسب على الإطلاق مع عدد وحجم الظواهر والقضايا المعقدة التى تواجهها هذه البلدان، وبما لا يمكن مقارنته مع مئات المراكز التى يضمها كل بلد غربى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التى يوجد بها وحدها أكثر من 1800 مركز للبحث والتفكير السياسى. والواضح أن ندرة هذه النوعية من المراكز فى بلداننا العربية تعود فى جزء كبير منها إلى إدراك خاطئ من أجهزة الدولة وقطاعات واسعة من النخب بعدم جدوى المعرفة والتحليل للقضايا والظواهر الاجتماعية والسياسية قبل الشروع فى وضع سياسات واتخاذ قرارات لمواجهتها، فالسائد أكثر هو أن الأجهزة الحكومية السياسية والإدارية والأمنية هى الأقدر على التعرف الدقيق والصحيح على أبعاد ومكونات تلك القضايا والظواهر، وهى الأكفأ فى وضع السياسات والإجراءات الكفيلة بالتعامل معها، وكل ذلك بادعاء تعبيرها الأدق عن مصالح الدولة وتوجهاتها من أى طرف آخر.
وبالإضافة إلى تلك المشكلة الأولية المتعلقة بوجود تلك المراكز، فهى تعانى مشكلات جوهرية تعوق قدرة العدد القليل الموجود منها على أداء ما هو ملقى عليه من مهام وأنشطة، تأتى فى مقدمتها مشكلة الحصول على المعلومات الدقيقة اللازمة للقيام بالتحليل الوافى والصحيح للظواهر والقضايا المختلفة واقتراح سياسات وإجراءات فعالة للتعامل معها. ومشكلة غياب المعلومات أو نقصها هى واحدة من أبرز المشكلات التى تعانى منها مجتمعاتنا العربية على مختلف المستويات، حيث يسود الخوف البيروقراطى والأمنى من نشرها وتداولها، انطلاقاً من أن ذلك يضر بالدولة والمجتمع، ولا يفيد سوى «الأعداء»، فتتحول وظيفة الأجهزة الرسمية من جمع وتنظيم المعلومات ونشرها على أوسع نطاق إلى حجبها بكل الطرق الممكنة القانونية وغير القانونية عن المهتمين بها، وفى مقدمتهم مراكز البحوث والتفكير الاجتماعية والسياسية. ويتحجج هؤلاء- زوراً وبهتاناً- بأن هناك مخاطر على «الأمن القومى» للبلاد، جراء ما تعده مراكز الدراسات والتفكير من بحوث وتقارير، وما تتوصل إليه من توقعات بخصوص تطور الظواهر والقضايا فى المستقبل، وما يمكن أن تقترحه من سياسات وبدائل للتعامل معها.
وتظل المشكلة الأخيرة التى تواجهها مراكز البحوث والتفكير القليلة القائمة فى بلداننا هى الحصول على التمويل الكافى لقيامها بأنشطتها العلمية، بما يتضمنه ذلك من توظيف عناصر بشرية متخصصة ومستلزمات مادية ضرورية لذلك. وفى هذا المجال من الواضح أن عدداً ضئيلاً من الحكومات العربية هو الذى يقدم قدراً كافياً من التمويل لعدد محدود للغاية من تلك المراكز، فى حين يسعى الباقى منها للحصول عليه من أى مصادر أخرى. وفى هذا الإطار، فخلافاً للتقاليد الغربية المستقرة بقيام رجال الأعمال وأصحاب المشروعات الكبرى بتقديم تبرعات مالية سخية لهذه المراكز، وأحياناً إنشاء بعضها من العدم، فلا يوجد فى العالم العربى مَن يقوم بذلك من تلك الفئة سوى قلة نادرة للغاية. ومن هنا لا يبقى لمعظم مراكز البحوث والدراسات سوى السعى لتلقى التمويل من جهات أجنبية متخصصة فى ذلك الشأن سواء كانت حكومية أو خاصة. وقد فتح هذا التوجه المتزايد فى السنوات الأخيرة الباب واسعاً للاختلاف والجدال حول طبيعة أهداف تلك الجهات من هذا التمويل ومدى توافقها مع الأهداف «الوطنية» و«القومية» المرجو من تلك المراكز تحقيقها.
إن نهضة الأمم لن تقوم بدون تضافر جهود قطاعات واسعة من مؤسساتها من أجل رسم طريق هذه النهضة ومعرفة الموارد البشرية والمادية التى يجب أن تتوافر لإنجاحها. ومن أجل نجاح ذلك، فإن حل المشكلات الكبرى التى تواجه مراكز البحوث والتفكير الاجتماعية والسياسية، والسعى لإنشاء العشرات منها فى مختلف التخصصات، يُعد واجباً وطنياً، اليوم، لا يقل كثيراً عن الواجبات الأخرى المعروفة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة