"جونتر جراس".. الكتابة في مواجهة الماضي
عبْر العديد من الحكايات والوقائع يأتي كتاب «جونتر جراس ـ مواجهة ماض لا يمضي» ليقدم مدخلا لقراءة أديب الألمان الحائز على نوبل في الآداب
في الكلمة التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة نوبل عام 1999 يذكر الكاتب والروائي الألماني جونتر جراس (توفي في 2015) قصة طريفة تبين عشقه للقراءة من الصغر، وانهماكه التام فيما يقرأ. ذات يوم أرادت أمه أن تشاكسه، وأن تظهر لصديقةٍ أتت لزيارتها كيف أن ابنها ينغمس في القراءة حتى أنه ينسى ما حوله، فوضعت "صابونة" مكان السندويتش الذي كان يقضم منه الصبي بين حين وآخر خلال القراءة. ثم وقفت تتفرج على ابنها وهو يتناول الصابونة -بدون أن يرفع نظره عن الكتاب- ثم يقضمها، ويشرع في مضغها، إلى أن يتضح له "المقلب" بعد دقيقة، فيلفظ قطعة الصابون من فمه (وسط قهقهات الأم ربما).
وفي حيثيات فوزه بنوبل ذكرت لجنة منحه الجائزة "بحكاياته ذات الفكاهة السوداء رسمَ جراس الوجه المنسي للتاريخ، وبروايته «طبل الصفيح» وضع حجرَ الأساس لبداية جديدة في الأدب الألماني بعد عقود من خراب اللغة والأخلاق (...) كان الواجب العظيم الذي اضطلع به هو تصحيح كتابة تاريخ عصره، فبعثَ الحياةَ في المنسيين والمُتنكر لهم، الضحايا والخاسرين، كما بعثَ الحياةَ في تلك الأكاذيب التي أراد الشعب تناسيها لأنه صدقها يوما ما"..
هكذا وعبْر العديد من الحكايات والوقائع والنصوص، يأتي كتاب المترجم المصري المقيم بألمانيا سمير جريس المعنون بـ«جونتر جراس ـ مواجهة ماض لا يمضي»، ليقدم مدخلا ممتازا لقراءة أديب الألمان الأشهر، والحائز على نوبل في الآداب لسنة 1999، مدخلا ليس فقط للتعرف على جوانب من سيرة وحياة كاتب مثير للجدل، وارتبط اسمه بأحداث جسام، لكن أيضا كتمهيد مناسب لقراءته ومطالعة أعماله الروائية المهمة.
يقدم جريس ما يمكن أن يعد نموذجا لما يجب أن تكون عليه كتب المداخل والمفاتيح، التي تبتغي الأخذ بيد قارئ متهيّب يرغب في التعرف على كاتب ذي شأن كبير، يسمع به ويقرأ عنه لكن يخشى مواجهته مباشرة، هنا يأتي الكاتب الخبير والمترجم المتمرس ليوفر لهذا القارئ وأشباهه متعة حقيقية، بتقديم مادة وافرة وغنية وبأسلوب بسيط ولغة سهلة واضحة مباشرة، عن الأديب الألماني الأشهر في القرن العشرين، خلاصة لمعايشة أكثر من عقدين قراءة ومتابعة ونقدا وترجمة، يقول جريس "كان همّي أن أقدم للقارئ غير المتخصص كتابًا مشوقًا غنيا بالمعلومات عن جراس. آمل أن أكون نجحت"..
صحيح، أن نواة هذا الكتاب نشرت كمقالات (مختصرة) متفرقة عبر السنين، لكن المؤلف أضاف مقالات عديدة أخرى كتبت خصيصا للكتاب، ومقالات أخرى أعاد صياغتها وربما كتبها من جديد لتصبح فصلا في كتاب وليس مجرد مقالة صحفية. سمير جريس، ليس مترجما قديرا فقط ولكنه أيضا قارئ أدب ومتذوق رفيع للنصوص السردية والشعرية، ولهذا جاء كتابه عن جونتر جراس حميميا وحماسيا ومشجعا على قراءة إبداع الرجل، من لم يقرأ جراس سيكون شغوفا بقراءته ومن قرأه سابقا ستتجدد الرغبة في معاودة مطالعته.
في «جونتر جراس مواجهة ماض لا يمضي» سنقترب من رجل عاش عمره تحت وطأة الفهم والفهم المضاد، رحلة شاقة اجتاز فيها مدقات الإيمان الأعمى بحلم مجنون أفاق منه على كابوس طارده طويلا حتى قرر مواجهته والتصدي له. يقول جريس "هذا الكتاب نافذة صغيرة على عالم كاتبٍ كبير؛ كاتب وجد نفسه منذ صباه في قلب أحداث أعادت تشكيل العالم بأسره. انساق وراء النازية صبيا، وخَبِرَ ضعف الفرد أمام غواية الشر، ثم شارك في حرب عالمية مدمرة، وظل يؤمن حتى اللحظة الأخيرة بالنصر النهائي لقوات هتلر. وبعد أن انتهت الحرب التي فتكت بزملاء له، وبعد أن زالت الغشاوة النازية عن عينيه، أدرك أنه يحيا بالصدفة، وأنه كان شاهدا على أحداث وجرائم بشعة، بل ومشاركا فيها، فكانت الكتابة سبيله لمواجهة الماضي - ماضي بلاده وماضيه الشخصي".
يقدم جريس قراءة إنسانية وإبداعية وثقافية لكاتب "لا يمكن تصنيفه بدقة لا كروائي ولا كشاعر ولا كسياسي مناضل من أجل الحقوق الإنسانية ومتعاطف مع القضية الفلسطينية"، هكذا وصفه الكاتب الكبير رؤوف مسعد.
فقد التقاه وحاوره أكثر من مرة ورافقه في بعض رحلاته وخاصة إلى اليمن، إنه هنا يحدثنا عن جراس الإنسان الذي يخاف من الفقد والذي "قد يكون سعيدا" بالنهاية" عن مواقفه السياسية ضد المؤسسة وضد الحزب الذي كان ينتمي اليه.. عن قصيدته التي يتحدث فيها عن الفقد وكيف فقد سنته الأخيرة وأيضا كيف "تتكرر" حبيبته المائتة. قراءة متأنية كهذه؛ تقدم للقارئ العربي زادًا مهما وضروريا.
aXA6IDE4LjIxOC43My4yMzMg جزيرة ام اند امز