ليست هناك مفاجأة فى طلب أمين عام الجامعة العربية الدكتور «نبيل العربى» عدم تجديد ولايته لخمس سنوات أخرى أسوة بأسلافه.
ليست هناك مفاجأة فى طلب أمين عام الجامعة العربية الدكتور «نبيل العربى» عدم تجديد ولايته لخمس سنوات أخرى أسوة بأسلافه.
الذين حاوروه بلا حواجز من دبلوماسيين وصحفيين وشخصيات عامة أدركوا منذ فترة طويلة نسبيا أنه سوف يغادر منصبه عند نهاية ولايته الأولى فى يوليو (٢٠١٦).
فى قراره ضيق بالأحوال التى وصل إليها العالم العربى وعجز المنظمة القومية عن الاضطلاع بأية أدوار، تساعد فى وقف نزيف الدماء ومنع سيناريوهات الانهيار.
بحكم حدود اختصاصاته لم يكن بوسعه، ولا بوسع غيره، التصرف والمبادرة أو تغيير توجهات القرار العربى المشترك.
يصعب الحديث عن أية فرص جدية فى «العمل العربى المشترك» وسط انقسامات فادحة وتدهور غير مسبوق فى بنية النظام العربى.
بصورة لا تخفى فإننا أمام أطلال لنظام لا أمام عمل مشترك.
أفضل ما هو منسوب إلى «العربى»، وهو يغادر موقعه، أن الجامعة العربية لم تختف من على الخريطة السياسية.
البقاء بذاته إنجاز على ما قال بنفسه.
فى اعتقاده أنه بذل أقصى ما يستطيع أمام ضغوطات أفلتت من كل تعقل وقدرة على صياغة الحد الأدنى من التوافق العربى.
لم يطلب البقاء لأنه مكلف وقاسٍ وينطوى على ظلم فادح يحمله ما لا يتحمل من عجز الجامعة عن الوفاء بمهامها.
فالقرارات تصدرها الحكومات لا الأمانة العامة والمبادرات تحجبها الحكومات بغض النظر عن رأى الأمانة العامة.
هو رجل مقيد يتعرض وحده لكل الهجوم.
فى شبه شلل الجامعة العربية تساؤلات جوهرية عن المستقبل.
إلى أى حد تستطيع البقاء أمام عواصف الأزمات الآتية؟
بأية صورة تنتهى الحرب فى سوريا؟
وأية خرائط محتملة بعد انتهاء الحرب مع «داعش»؟
بالنظر إلى الأزمات المتفاقمة فى الإقليم باتساعه فإن مصير الجامعة معلق على تفاعلاتها ونتائجها.
هناك سيناريوهان رئيسيان لحركة الحوادث.
الأول، أن تفضى إلى توزيع جديد لموازين القوة والنفوذ فى الإقليم، بحيث يصعب أن تكون هناك بالأساس منظمة قومية تعبر عن عالم عربى متماسك تجمعه أهداف ومصالح مشتركة.
مع التصاعد المحتمل للدورين التركى والإيرانى فى ترتيبات «ما بعد الأزمة السورية» و«ما بعد الحرب مع داعش»، فإنه من غير المستبعد إنشاء منظمة إقليمية جديدة تضمهما إلى أشلاء العالم العربى أو دوله المنهكة واليائسة.
الثانى، أن تفضى إلى تمزيق فى خرائط المشرق العربى تمتد إلى دول أخرى على أسس طائفية وعرقية يصعب بعدها الحديث عن أى نظام.
فوضى الهويات المسلحة لا تؤسس لنظم إقليمية قادرة على البقاء.
فى السيناريوهين تقويض لكل ما هو عربى فى تقرير أى مستقبل.
لم يخفِ الدكتور «نبيل العربى» انزعاجه من كلا السيناريوهين فى حوار مطول بمنزل الأستاذ «محمد حسنين هيكل» على نيل الجيزة شارك فيه السياسى اللبنانى «وليد جنبلاط»، وعدد من الوزراء اللبنانيين الحاليين ونخبة من كبار الصحافيين المصريين.
فى السياسة لا يستبعد أى سيناريو طالما لاحت مؤشرات ومقدمات.
بقدر الخطر تتأكد الحاجة إلى تفكير مختلف فى الجامعة العربية ومستقبلها.
بالحساب السياسى فإنها شبه مشلولة.
بالحساب المستقبلى فإن وجودها مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى العرب أيا كان موقفهم منها.
لم تحظ الجامعة العربية منذ إنشائها قبل نحو سبعة عقود برضا عام مستقر وراسخ.
فى محطات فاصلة أبدت قدرا من الحضور المؤثر مثل قمة الخرطوم التى أعلنت عقب نكسة (١٩٦٧) اللاءات الثلاثة «لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف» ودعم دول المواجهة.
رغم ذلك ظلت مادة تجاذب فى أوساط الحياة السياسية العربية بين«وحدة الهدف» و«وحدة الصف».
فى محطات ثانية أكدت قدرتها على شىء من التماسك بعد تجميد عضوية مصر فيها إثر توقيع اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل وتولى أمانتها العامة «الشاذلى القليبى»، بعد نقلها إلى تونس، وهو أول وآخر من صعد إلى هذا المنصب من غير المصريين.
كان خروج مصر من معادلات الصراع العربى ــ الإسرائيلى أخطر تصدع فى بنيان النظام العربى.
وقد أخفقت «جبهة الصمود والتصدى»، التى ضمت سوريا والعراق وليبيا ودول أخرى فى أن تملأ الفراغ المصرى وبدا الشرخ عميقا فى بنية النظام العربى.
عندما عادت مصر إلى الجامعة وعاد منصب الأمين العام إلى وزراء خارجيتها السابقين لم تعد إلى أدوارها القيادية فى العالم العربى.
للقيادة استحقاقاتها وللأدوار فواتيرها فلا يوجد شىء مجانى.
فى محطات فاصلة ثالثة اتسعت الشروخ فى مواجهة الأزمات والتحديات والمخاطر.
تبدى الانقسام فادحا عند الاقتحام العراقى للكويت فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، ووصلت الشكوك المتبادلة إلى ذروتها المأساوية.
كان ذلك تصدعا لفكرة العمل العربى المشترك كلها ولأية قواعد تحكم العلاقات بين دوله.
فى عام (٢٠٠٣) احتل العراق وتفككت دولته دون أن تعترض الجامعة العربية وتنتصف لحق العراقيين فى دولة متماسكة لا تحكمها محاصصة المذاهب والعرقيات.
بل إن هناك من لم يخفِ شماتته وتواطؤه مع العدوان وأهدافه.
بأى حساب نهائى فقد دفع العرب ثمنا هائلا لسقوط بغداد.
فيما بعد اشتعلت النيران فى المشرق العربى، وتمدد الدوران الإيرانى والتركى فى الفراغ الذى خلفه السقوط العراقى.
مع تراجع الدور المصرى بدا العالم العربى فى انكشاف استراتيجى كامل.
لم يكن بوسع الجامعة المتصدعة أن تضطلع بأى دور قومى فى الأزمتين السورية والليبية وأحالت الأمر برمته إلى مجلس الأمن.
المثير فى تراجيديا الجامعة العربية أن أعتى نقادها من القوميين العرب هم الآن الأكثر قلقا من انهيارها.
فى سنوات الصعود القومى رأوا فى الجامعة تكريسا للدولة الإقليمية والحدود التى صاغتها«سايكس بيكو» على حساب أى تطلع لوحدة عربية مأمولة غير أن ما تتعرض إليه الدول العربية الآن من تهديدات وجودية واحتمالات تمزقات جديدة، استدعى دفاعا عما كانوا يعارضونه.
لا يوجد عاقل واحد فى العالم العربى يدعو إلى تفكيك المنظمة القومية، رغم ما وصلت إليه من تدهور.
تحدى البقاء هو أخطر المهام الموكلة إلى الأمين العام القادم.
بقدر حسن الاختيار يمكن كسب التحدى.
فرض أسماء من ظلال الماضى مجازفة بمصير الجامعة العربية فى لحظة قاسية من تاريخها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة