قبل سنوات قليلة ظهر تعبير مختصر بالإنجليزية عن فن صناعة الجدل والشكوك أطلق عليه مانوفكتروفسى manufactroversy
(1) قبل سنوات قليلة ظهر تعبير مختصر بالإنجليزية عن فن صناعة الجدل والشكوك أطلق عليه مانوفكتروفسى manufactroversy وهو مزيج من كلمتين manufactured controversy أو «الجدل المصنوع» وظهر بقوة بعد حملات عديدة استهدفت حشد الرأى العام الأمريكى وراء أراء تشكك فى طرح معين فى قضايا تمس صناعات كبيرة يجنى أصحابها المليارات مثل صناعة التبغ والسجائر والكيماويات والأدوية، ومنها الحملات الشهيرة التى تنكر وجود مشكلة التغير المناخى فى العالم. وتركز حملات «صناعة الشكوك» على إيجاد البلبلة فى أوساط الجمهور العام حول القضايا العلمية من خلال الاعتقاد الراسخ أن الشخص العادى «يجهل» ليس فقط ما يخص قضايا علمية محددة ومعقدة، ولكن أيضا كيف يعمل العلم. وهذا غالبا ما ينطبق أيضا على الصحفيين غير المتخصصين، فهم صيد ثمين لمن يريد تمرير معلومات مغلوطة. إذن، تصنيع الجدل والشكوك هو «تكتيك» تستخدمه جماعات أيديولوجية وجماعات مصالح من أجل تحييد تأثير المتخصصين فى مناقشات السياسة العامة.
(2) من الصناعة إلى السياسة، لو نظرنا إلى تأثير «المانوفكتروفسى» فى كل جوانب القضايا المحلية والدولية فسنجد نسخا «بالكربون» من الحالة التى ظهرت مع تأثير الشركات العابرة للحدود والتى تملك ثروات طائلة على النقاش العام فى الولايات المتحدة وغيرها، وجميعها يروج لصيغ التضخيم فى الشكوك المحيطة بشخصيات أو مؤسسات وانتقاء مغرض للخبراء للتحدث فى تلك القضايا بعينها، والهجوم العنيف على المخالفين فى الرأى وتهميش الدور التقليدى للمؤسسات المتخصصة وفرض «كماشة» على وسائل الإعلام لتقديم طرح واحد فى الغالب أو تمويل حملات بعينها للترويج لسياسة أو توجه بعينه.
(3) الدولة فى أى مجتمع هى الضامن الوحيد لعدم انحراف النقاش العام فى اتجاه إقصائى أو لخدمة أطراف وجماعات مصالح بعينها، وفى المجتمعات المفتوحة تكون حدة المناقشات مسألة عادية، وفى المجتمعات المنغلقة يخلق الصراخ والترويع مناخا مضطرباً لا يساعد على مواجهة اللغط الناشيء عن سيطرة اتجاه بعينه على النقاش العام ووسائل الإعلام بما يملكه التيار الواحد من نفوذ وشبكة مصالح وأموال تساعده على إنفاذ أغراضه دون حسيب أو رقيب.
(4) فى مصر، تبدو صناعة الجدل والشكوك فى أوساط الرأى العام فى رواج أكبر مما كانت عليه قبل أعوام، فمن ناحية المجتمع، خارج من تأثير ثورتين أحدثتا هزات عنيفة فى بنية المجتمع وفى كثير من القناعات التى كانت قد استقرت لعقود طويلة مثل العلاقة بين الحاكم والمحكومين، ومن ناحية أخرى لم تفلح القوى الفاعلة والطبقات الراغبة فى تغيير حقيقى فى طرح بدائل مقنعة وسط على المشهد أصحاب مصالح ارتدوا عباءة الدين والسياسة معا ثم جاءت ثورة جديدة أعادت للمجتمع حيويته من جديد. ما حدث بعد ذلك هو الجدير بالتحليل والتوقف عنده. فالقوى التى تملك مصالح كبيرة فى يديها أعدت العدة أن تعرقل تدخل الدولة بالإصلاح الشامل وخلقت الجدل المتوهم بين ثورة 25 يناير و30 يونيو من أجل صناعة مناخ من الشكوك لدى القطاعات الأكبر من المجتمع وهم أكثر المعنيين بتدخل الدولة لمصلحتهم ومن أجل وقف المصالح الخاصة عند حدودها الطبيعية. وكانت وسائل الإعلام هى المنصة الأكثر تأثيراً لخدمة أهداف «صناعة الشكوك والجدل» التى تخدم تلك المصالح الضيقة، فغرق المجتمع فى جدال لا ينتهي، نخرج من قضية فئوية إلى قضية عامة تتوه فيها الحقائق، ويعيد هؤلاء القضايا الطائفية إلى الواجهة فى غيبة الدولة والقانون، ويروجون لحوارات غير منضبطة فى السياسة الخارجية تضع المصالح العليا للدولة على المحك مع دول صديقة وتخلق عداوات غير مبررة مع أطراف عدة.
(5) تملك الدولة أن تتدخل بصورة لا تقبل التأويل فى إعادة تنظيم حركة المجتمع ووضع قيمة «حكم القانون» فوق أى اعتبارات أخرى، وتقنين بعض الأوضاع المختلة من خلال قوانين تعالج الجوهر وليس الشكل فى صناعة الإعلام، فلن يحل أزمة الإعلام القومى قانون جديد يشبه سابقه دون الإقرار بدور الإعلام العام فى إعادة ضبط منظومة القيم فى المجتمع فى ظل ظواهر الإعلام الجديد. ولا يخفى أن الخارج يسأل دوما عن التوجه الاقتصادى للدولة، ويريد أن يعرف تفاصيل أكثر عن خطط الإصلاح وبناء الدولة الحديثة، وهو حقه لو أردنا أن نقول له «مرحبا بك فى بلادنا»..
الشرر المتطاير من المعارك الصغيرة فى الداخل ينشر سحابة من الشكوك فى الخارج يمكن أن نضع حدا لها بسهولة لو أردنا!.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة