لا يسع المراقب إلا أن يلاحظ أن هناك بعض الخطوات والأفعال التى إتخذت مؤخرا والتى تشير إلى عودة بعض الدفء للعلاقات الثنائية
ما هو جديد العلاقات بين مصر والولايات المتحدة؟ لا يسع المراقب إلا أن يلاحظ أن هناك بعض الخطوات والأفعال التى إتخذت مؤخرا والتى تشير إلى عودة بعض الدفء للعلاقات الثنائية، بعد فترة من التدهور والبرودة.
ويتمثل آخر هذه المستجدات فى طلب إدارة الرئيس باراك أوباما من الكونجرس الأمريكى إلغاء الشروط المرتبطة بمنح المساعدات العسكرية لمصر والبالغة 1.3 مليار دولار سنويا. وتتعلق تلك الشروط التى فرضها الكونجرس بعد ثورة يناير 2011 بالتقدم نحو الديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان. وإذا كان القانون الذى فرض تلك الشروط قد منح إلإدارة الأمريكية الحق فى التغاضى عنها إذا كانت المصالح الأمريكية تستلزم ذلك، فإنه ظل يشكل عقبة تتكرر سنويا عند إعتماد المساعدات العسكرية لمصر، إذ ينبغى على وزير الخارجية الأمريكى إما أن يتقدم بتقرير إلى الكونجرس يبين فيه مدى التقدم فى ملفى الديمقراطية وحقوق الإنسان أو أن يوضح المبررات التى تدفع الإدارة لتجاوز تلك الشروط. وقد لجأت هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الحالية للرئاسة عن الحزب الديمقراطى، لهذا الإستثناء لتمرير المساعدات العسكرية لمصر فى فترة الرئاسة الأولى لأوباما. كما لجأ إليه وزير الخارجية الحالى جون كيرى فى فترة الرئاسة الثانية. وإذا كانت إدارة أوباما قد إستطاعت على الدوام تخطى عقبة الشروط بإستخدام الرخصة الممنوحة لها فى القانون، فإن الأمر الأهم هو أن بقاء تلك الشروط كان يسبب لها حرجا مستمرا ومصدرا للتوتر فى علاقاتها مع القاهرة. ومن ثم فهى تسعى اليوم لإلغائها.
ولا يقتصر الأمر فى الواقع على ذلك. فالموقف الأمريكى الجديد الراغب فى إزاحة شروط الكونجرس برمتها ينطوى على قناعة توصلت إليها الإدارة الأمريكية تدريجيا مفادها أن تلك الشروط لم يعد لها جدوى لأنها بكل بساطة لم تحقق الغرض من فرضها. فالقاهرة لم تخضع للضغوط الأمريكية بما فى ذلك تلك المرتبطة بالتهديد بقطع أو خفض أو تجميد المساعدات العسكرية. فواشنطن جمدت بالفعل فى 9 أكتوبر 2013 فى أعقاب فض إعتصامى الإخوان المسلمين برابعة العدوية والنهضة جزءا هاما من المساعدات العسكرية لمصر يتضمن على وجه الخصوص المعدات الثقيلة وهى طائرات إف 16 وقطع غيار الدبابات أبرامز وصواريخ هاربون المضادة للسفن. ونظرا لعدم التوصل للنتائج المرجوة من هذا الضغط، قررت واشنطن الإفراج عن تلك المعدات فى 31 مارس 2015. والحقيقة إن هذا القرار كان يبرره كذلك، وبصورة أساسية، المستجدات التى طرأت على الساحة فى العالم العربى، وأهمها إنتشار التطرف الفكرى والإرهاب باسم الدين، وهو ما تمخض خصوصا عن ظهور وتمدد منظمة داعش الإرهابية فى العديد من دول المنطقة. وقد أكد جون كيرى أمام الكونجرس فى 24 فبراير 2016 إن طلب الإدارة الأمريكية بإلغاء القيود المفروضة على المساعدات العسكرية لمصر يبرره إنتشار العنف والإرهاب فى "عالم سقطت فيه الحدود"، وفقا لتعبيره. ولإقناع مستمعيه، أشار كيرى إلى الإعتداء الإرهابى الذى وقع فى مدينة سان برناردينو بولاية كاليفورنيا فى 2 ديسمبر الماضى والذى راح ضحيته 14 قتيلا بالإضافة لإثنين وعشرين جريحا. وكان وزير الخارجية يبغى من وراء ذلك إقناع الكونجرس بأن الإرهاب الملتحف بالدين لم يعد قاصرا على العالم العربى وإنه يطال اليوم الدول الغربية والولايات المتحدة و إن سبل محاصرته والحد منه تتمثل فى مساعدة دول المنطقة التى تقوم بمكافحته، وعلى رأسها مصر.
والسبب الثانى الذى ذكره كيرى أمام الكونجرس لتبرير تغير سياسة الإدارة الأمريكية تجاه القاهرة يتمثل فى رغبتها فى الحفاظ على نفوذها داخل مصر، وهى قوة إقليمية ذات وزن هام، فى مواجهة منافسة دولية شديدة. ولم يشر كيرى تحديدا إلى روسيا، إلا أنه شدد على الدعم المالى الكبير الذى قدمته لمصر بعض دول الخليج، وهى المملكة السعودية والإمارات العربية والكويت، والذى تعدى العشرين مليار دولار منذ الإطاحة بمحمد مرسى فى يوليو 2013. وعقد كيرى مقارنة بين حجم تلك المساعدات واجمالى الدعم السنوى الذى تتلقاه مصر من الولايات المتحدة والذى ينقسم لمساعدة عسكرية تبلغ 1.3 مليار دولار و أخرى إقتصادية لا تتعدى 150 مليون دولار، وتساءل موجها حديثه لأعضاء لجنة المساعدات الخارجية : من سيكون أكثر تأثيرا [على مصر]؟
يضاف إلى ما سبق المصالح الإستراتيجية التقليدية للولايات المتحدة فى مصر والعالم العربى والشرق الأوسط والتى تقررت على أساسها المساعدات العسكرية والإقتصادية الأمريكية غداة التوقيع على إتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى 1979، وهى الحفاظ على السلام بين مصر وإسراثيل والإنتفاع بمميزات عسكرية متنوعة كأولوية مرور السفن الحربية الأمريكية فى قناة السويس للوصول سريعا إلى مناطق النزاع وعبور المقاتلات الأمريكية المجال الجوى المصرى. وهى مميزات هامة تمنح الجيش الأمريكى أفضلية نسبية فى مواجهة منافسيه. وقد أدى تصاعد خطر الإرهاب فى السنوات الأخيرة إلى مضاعفة أهمية تلك المميزات وإضفاء صفة الإلحاح على مصالح أمنية أخرى مرتبطة بها مثل سلامة عبور السفن فى قناة السويس والبحر الأحمر التى قد يهددها النزاع فى اليمن، وهو البلد المطل على مضيق باب المندب، وتشديد الرقابة على الحدود بين مصر ودول الجوار لمنع تهريب السلاح وتسلل المقاتلين، كما هو الحال مع ليبيا وقطاع غزة. ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة إستثنت هذه المجالات من تعليق المساعدات العسكرية الذى تقرر عام 2013.
إن التطور التدريجى الراهن فى سياسة الولايات المتحدة تجاه مصر ليس وليد اليوم. فقد بدت إرهاصاته خلال الأشهر الماضية وكانت من أهم محطاته، بالإضافة للإفراج عن المعدات العسكرية الثقيلة فى مارس 2015، إستئناف "الحوار الإستراتيجى" بين الدولتين، بعد توقف دام منذ عام 2009، خلال الزيارة الهامة التى قام بها جون كيرى إلى القاهرة فى بداية أغسطس الماضى. ولعل المغزى الأهم لتلك الزيارة هى أنها أوضحت أن واشنطن فى سبيلها للتخلى عن سياسة الضغط من خلال المساعدات العسكرية بعد أن إتضح عدم جدواها وإنها باتت تفضل بدلا منها أسلوب الحوار لتسوية المشاكل العالقة فى علاقتها مع مصر. ومما زاد من قوة هذا الإتجاه هو إزدياد إحتياج واشنطن لحلفائها فى المنطقة بسبب تصاعد النزاعات المسلحة ومصادر التهديد لمصالحها وبسبب إستمرار تمسكها بتقليل تواجدها العسكرى فى العالم العربى والشرق الأوسط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة