أيتام يواجهون منظومة الدمار الاجتماعي بعد "دور الرعاية"
90% ممن يتزوجون من بعضهم يصلون بعد فترة لمرحلة الطلاق لأسباب عديدة، فلم يعيشوا في أسرة طبيعية، ولم يكونوا يعرفون أن هناك مشاكل ستواجههم
"عندما وصلت لعمر 18 عامًا علمت أن اللحظة الحاسمة قد جاءت، وسأواجه المجتمع وأخبرهم حقيقة من أكون، أنا لقيط ولا أعرف أبي وأمي، والمجتمع يعتقد أنني مذنب، وسيعاقبني بدون شك" .. كلمات مؤلمة على لسان "فتحي"، الذي يبلغ من العمر الآن 29 عامًا، تلخص حكايته التي تكاد تتطابق مع حكايات الكثيرين ممن نشأوا في دور الرعاية التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية، والتي تضم كلًّا من اللقيط ومجهول الأب وطفل "السفاح" والأيتام وغيرهم.
يروي "فتحي" ما حدث بعدما خرج للعالم الطبيعي، فيقول: "عندما أخبروني أنني يجب أن أعتمد على نفسي، علمت أنني سأواجه مشاكل عديدة، وأعترف أنني سرقت لتأمين لقمة عيشي، وارتكبت كل فعل يخطر في بالكم، فكيف لي أن اعتمد على نفسي فجأة بعد أن اعتدت طوال 18 عامًا أن يؤمن لي الغذاء ومكان المبيت، والآن يخبرونني أنني يجب أن أبحث عن كل أساسيات الحياة".
يضيف: "بعد فترة من الزمن وجدت عملًا، لكن حتى صاحب العمل منحني راتبًا قليلًا عندما عرف أنني لقيط، وتعامل معي بسوء، ففي هذا المجتمع لا أحد يقف معنا، كوننا وصمة عار، وعند خروجي من دار الرعاية منحوني مبلغًا يقارب ألفي دينار أردني، ولكن سرعان ما اختفى؛ فالحياة غالية، الآن تزوجت وأصبح لديَّ طفلين، وأنا مسؤول عنهم كليًّا".
دور الأم البديلة مهم:
تقول زوجة فتحي، "شهيدة": "أنا أيضًا لقيطة، وقد تعرفت على فتحي من خلال دار الرعاية، وأعمارنا متشابهة، وحين يخبرني فتحي عن الأفعال التي قام بها، لا أوبخه، فقد مررت بالتجربة نفسها التي عاشها، بعد وصولي لسن 18 عامًا، أخبروني أن الوقت قد انتهى، ويجب أن أواجه الحياة، في البداية كنت لم أجد مكانًا لأنام فيه، ولجأت لأسطح البنايات وأحيانًا الحدائق لأنام بها، فأنا أعرف أن معظم الفتيات اللواتي خرجن للواقع ولم يجدن مكانًا للمبيت تم اغتصابهن، ولم أكن أريد أن أصل إلى هذه اللحظة".
وتضيف: "أواجه مشاكل معقدة مع أطفالي من كثرة الأسئلة والفضول الذي لديهم، مثلًا: لماذا لا يوجد لدينا جد أو جدة؟ .. نرغب بأن يعيشوا حياة طبيعية، وتصبح لديهم أسرة، لكنهم يلاحظون مثلًا عدم الشبه في الشكل بين الأم وإخواتها أي الخالات، وعدم الشبه بين الأب والأعمام، لأن كل فتاة تربت مع الأم في دار الرعاية هي خالة لهم، وكذلك بالنسبة للأعمام .. ومن الممكن أن تكون لون البشرة مختلفة تمامًا، نحاول أن نشرح لهم بشكل بسيط، حتى لا يتعبوا نفسيًّا".
تؤكد شهيدة أن هناك دورًا كبيرًا تقوم به الأم البديلة في دار الرعاية على تطوير شخصية الأطفال، وتشكر الأم التي ربتها كونها منحتها الثقة بالنفس والإرادة، ومع الأيام تمكنت شهيدة من دراسة تخصص "صياغة الذهب" بإحدى الكليات لتصبح الآن متعلمة، بعد أن شقت طريق العمل والألم.
هذا العالم موحش:
أما عمر شاكر، الذي يبلغ من العمر 33 عامًا، وهو متزوج ولديه 3 أطفال، فيقول: "الشاب والشابة في عمر 18 عامًا، لا يستطيع معرفة كل الشرور الموجودة في العالم الخارجي، وتأتي أيام سيواجه كل منهم هذه المواقف، وهناك عدة مشاكل نواجهها بعد مواجهتنا للحياة، من بينها عدم قدرتنا على إكمال الدراسة الجامعية، في السابق كانت هناك اتفاقية بين الجامعات لتأمين منح لنا، لكن مع الوقت لم يمنحونا أي منحة، فقد نجحت في امتحان التوجيهي في عام 2000، ولم أستطِع أخذ منحة دراسية، وبعد ذلك عملت في مطعم فلافل بالرغم من تفوقي الدراسي، ثم لجأت للكافلة التي عملت على دراستي لتخصص هندسة الشبكات، جزاها الله كل خير وانتشلتني من هذا الظلام".
يتابع: "هذا العالم متوحش، ومن ليس له سند أو أسرة سيضيع بدون شك، فنجد معظم الفتيات ذهبن إلى طرق ملتوية مثل بيوت الدعارة، وعرض الخدمات في الشوارع مقابل دنانير معدودة، والمخدرات وغيرها من القصص التي من المتوقع حدوثها".
يتساءل عمر: "كيف للفتاة أو الشاب أن يعيش حياة طبيعية بدون تعليم، وعدم وجود أسرة، ولا يوجد مكان للمبيت، ولا تأمين صحي، ويحصلون على الوظائف بصعوبة ويعانون من مشاكل نفسية والمستقبل بالنسبة لهم رعب يلاحقهم، لقد نشأت في بيت للرعاية، ولا أعرف أبي وأمي، وتزوجت من فتاة وضعها مشابه لي، آملين أن يصبح أطفالنا هم سندنا الحقيقي، لعلنا ننسى كلمة "لقيط".
90% نسبة الطلاق:
المنسق الإعلامي باسم الأيتام، علاء الطيبي، يقول: "دور الرعاية تستقبل الأطفال من كل الفئات التالية: مجهول النسب (اللقيط)، مجهول الأب، مجهول الأم، السفاح، التفكك السري، والأيتام. ويتم استقبالهم لعمر 18 عامًا وبعدها يخبروهم أن الوقت قد انتهي ويجب أن يعتمدوا على أنفسهم، ويندمجوا مع العالم الطبيعي. وآخر إحصائيات تبين أن من عام 2001 إلى 2014 خرج من دور الرعاية 4 آلاف شخص. وهناك دار رعاية اليافعات، وتستقبل الفتيات وتؤمن لهم مكانًا للمبيت وغيره من الخدمات، لكن هذه الدار سعتها 15 فتاة، وسنويًّا يتخرج ما يقارب 200 فتاة، وبالتالي ليست حلًّا جذريًّا ومعظم الفتيات سينخرطن مع الأعمال غير السليمة ليتمكن من العيش".
وأضاف: "بحسب خبرتي في قصصهم كوني فردًا منهم، وعشت التجارب نفسها التي يحكونها، فإن 90% ممن يتزوجون من بعضهم يصلون بعد فترة لمرحلة الطلاق لأسباب عديدة، فهم لم يعيشوا في أسرة طبيعية، ويعرفون أن هناك مشاكل ستواجههم، بالإضافة إلى عجز الرجل عن تأمين الأسرة ماديًّا؛ لعدم قدرته على الحصول على العمل، وبالطبع يكون في الغالب غير متعلم ولا توجد معه شهادة تؤهله لسوق العمل، وتصبح المشكلة معقدة أكثر إذا أصبح لديهما أطفال، وهكذا فإنها متتالية من الدمار الاجتماعي".
خدمات غير الزامية:
الناطق الإعلامي لوزارة التنمية الاجتماعية، الدكتور فواز الرطروط، يقول: "يتم استقبال هذه الفئات حتى عمر 18 عامًا، وبعد ذلك نساعدهم من خلال برامج الرعاية اللاحقة، لكن وفق التشريعات، نحاول أن نؤمن لهم فرص العمل، والتعليم والتدريب، وأيضًا المساعدة على الزواج".
وينكر الرطروط إهمال الوزارة لهم: "الوزارة وفرت لهم مساكن للمبيت، ومنحت الآخرين مبالغ مالية حتى يستطيعوا توفير منازل للمبيت بها، لكن كل هذه الخدمات غير إلزامية كونهم بلغوا السن القانونية. وهناك دار الرعاية لليافعات للحالات الصعبة، والآن يوجد منتفعون من دور الرعاية يقدر عددهم بـ900 مقسمين بين الذكور والإناث، وأكثرهم نتاج التفكك الأسري، فنحن نحاول دمجهم مع الخارج ونعلمهم الاعتماد على النفس".
دراسة:
بيَّنت دراسة نشرت مؤخرًا لمركز المعلومات والبحوث التابع لمؤسسة الملك حسين، أن خريجي دور الرعاية يعانون من صعوبات فيما يتعلق بإكمال تعليمهم وتحديد مساراتهم المهنية بعد التخرج لعدة أسباب، أكبرها شح المتابعة الفردية بما يتعلق بالتحصيل الدراسي أثناء مكوثهم في دور الرعاية، وبحسب الدراسة فإن 13 من 18 طفلًا في دور الرعاية تمت مقابلتهم لا يذهبون بشكل يومي إلى المدرسة.
ومن أصل 18 يافعًا ويافعة تم استطلاع آرائهم، فإن 17 منهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع المشاكل القانونية إذا تعرضوا لها بعد التخرج، ونصفهم ليس لديهم صورة واضحة عن أين ومع من سيسكنون بعد تخرجهم، و13 ليست لديهم أي فكرة عن الخدمات التي يمكن أن توفرها لهم وزارة التنمية الاجتماعية بعد التخرج، و11 يشعرون أنه سيتم التمييز ضدهم بعد التخرج، و11 يشعرون بالتشاؤم تجاه المستقبل.
أما من الناحية النفسية، فتبين الدراسة أن العديد من الشباب والشابات بحاجة لدعم عاطفي، حيث قال نصف المشاركين، إنهم "لا يشعرون بالاستقرار العاطفي، وبين 94% أنهم قلقون من المستقبل، وعبَّر نصفهم عن عدم فخرهم بأنفسهم".
aXA6IDMuMTQ4LjEwOC4xNDQg جزيرة ام اند امز