"الغزلية الكبرى" للشاعر سليم بركات:تبجيل النساء استسلاما لهن
على امتداد 150 صفحة تحتشد بكثافة قصيدة الشاعر السوري سليم بركات الجديدة .. نص عالي البلاغة، فادح اللغة والصور والخيال.
على امتداد 150 صفحة، تحتشد بكثافة قصيدة الشاعر السوري سليم بركات الجديدة .. نص عالي البلاغة، فادح اللغة والصور والخيال.
حين يكتب سليم بركات فهو لا "يقول"، بل يفيض بغزارة وتدفق، فيحيط بنا ويُغرقنا في تلك السيولة الهادرة، والمتتالية من أول مفردة إلى آخر الكتاب.
لكن، وقبل معاينة هذه القصيدة الطويلة، لابد من الإشارة إلى سوء تدبير "دار المدى"، الناشرة للكتاب على نحو متهور ومتسرع، كمن يرمي مخطوطًا إلى الطبع من غير مراجعة ولا تدقيق ولا تحرير، ما جعل قارئ الكتاب يعاني وهو يحاول فك الكلمات المتداخلة والمدغمة ببعضها البعض، بسبب غياب المسافة (Space) في أثناء التنضيد على الكمبيوتر "الكيبورد"، عدا عن تعمد الدار إلى حشر الأسطر وضغط النص، ربما توفيرًا للورق وكلفة الطباعة، ما جعل صنعة الكتاب ركيكة وغير مهنية، ومسيئة لسمعة الدار والكتاب في آن معًا.
رغم غياب متعة الإمساك بالكتاب والتصفح ومعاناة التصحيح في أثناء القراءة، وفقدان الانسياب البصري في المطالعة، كان صوت بركات القوي يحثنا على ملاحقة القصيدة، كلمة إثر كلمة .. هو الشاعر الفريد بين أقرانه، المتفوق غزارة وخصوصية في اشتقاق درب شعري صعب ووعر.
شخصيًّا، أدين لهذا الشاعر، المقيم منذ التسعينيات في إحدى غابات السويد، بالكثير من سخاء لغته واقتراحاته التي وسعت انتباهي لاحتمالات الشعر واللغة وحرية اشتقاق القول والمعاني، والتحرر من القاموس الرائج، والتبصر في قدرة المجاز ومواءمة الصورة مع اللفظ ... إلخ.
هو صاحب "كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضًا" الأشبه بالصدمة الأولى، وبالاكتشاف المدوخ لبحر اللغة والأصقاع المجهولة للشعر العربي، وحين قرأنا "هكذا أبعثر موسيسانا" و"للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك"، كذلك "الجمهرات" و"بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح"، بتنا موقنين بأننا أمام أحد أفضل الشعراء العرب الحداثيين في القرن العشرين. هو كما يقول بول شاوول: "شاعر على فرادة خاصة، وعلى غير تصنيف، لا بالحديث في سياق ثرثرات الحداثة، ولا بالقديم في سياق استثمار الماضي، ولا لغوي على طريقة البلاغيين". لقد ذهب سليم بركات باكرًا إلى "تفجير" اللغة (لا تدميرها، بل كمن يفجر الينابيع) على نحو لم يحلم به دعاة ذاك "التفجير"، فتمكنه من الذاكرة المترامية لتراث اللغة العربية، أتاح له قدرة مدهشة على التلاعب بها، كمن يخترع مخيلة تعبيرية وقاموسية جديدة تمامًا، معقَّدة وحبلى بالرمزية وبالطاقة المجازية والبلاغية والتهويمية.
السحر الشعري عنده تعدى بناء القصيدة إلى النثر الروائي، بداية مع السيرتين الأخاذتين "الجندب الحديدي" (سيرة الطفولة) و"هاته عاليًا، هات النفير على آخره" (سيرة الصبا). ودومًا أقول إن لسليم بركات دورًا حاسمًا في كسر نمطية القصيدة الحديثة وفقر قاموسها ومخيلتها. لقد ساهم منذ الثمانينيات في حركة تطور القصيدة العربية الحديثة، خصوصًا في طورها الثاني، أي بعد ما سميّ بـ"رواد الحداثة". وأسهمت كتابات بركات على نحو جلي في تطوير لغة النثر نفسها، رواية وشعرًا، موسعًا من القاموس المتداول أكثر بكثير من معظم الشعراء الذين ادعوا ذلك، متجاوزًا بقوة فائقة الإرث المتداول للشعر الحديث، حتى أن محمود درويش يعترف: "بذلت جهدًا كي لا أتأثر بسليم بركات".
ما من شاعر حديث (بالعربية) على هذا القدر من التمكن لغة واشتقاقًا ونحتًا وكسرًا وبناءً في العبارة ومعناها، وفي ابتداع الخيال من اللفظ نفسه، من داخله، إذ يشحن كل كلمة بطاقة تخييلية، قادرة على رسم عوالم وعلاقات بين المعاني والصور، لم توجد قبل أن يجترحها هو.
قصيدة "الغزلية الكبرى" أتت بعد قصيدته المذهلة "سوريا"، ليكتب في مديح النساء أنشودة فاتنة في حبهن وفي كينونتهن وفي حضورهن وفي شفافيتهن وفي عذابتهن وفي أجسادهن وفي أصواتهن .. قصيدة كاشفة وموَّارة وفائرة بالشغف والامتنان لكل ما هو أنثوي. قصيدة من تبجيل مقدس لأرواحهن:
"أحبهن مسالمات،
وفيات للندم قبل الحروب وبعد الحروب.
أحبهن يتأخرن عن حفلهن،
وأحبهن أكثر إن غبن عن حفلهن،
هي الأمكنة لم تزل دائخة مذ هززنها" (ص 38).
ويكتب أيضًا: "خمش المجرات هن، خمش الذهبِ الذهبَ، والأقاصي الأقاصي، والمجاهل المجاهل، واللبس اللبس، والغامض الغامض. أحبهن: رمين السماء بثلج فأضحكنها." (ص 113).
في هذه القصيدة، يشفّ الشاعر، عائدًا بعد شعر الغضب والفجيعة إلى حضن الهناءة والدعة والحب والرقّة، إلى الأنثى-المثال، التي تجعل العالم محتملًا، واللغة أجمل، والتنفس أرحب، والموت أخفّ.