جورج طرابيشي.. رحيل أهم مفكري "نقد العقل العربي"
بعد أن دوّن مقالته الأخيرة بعنوان "ست محطات"، مستعرضاً فيها سيرته الذاتية بشكل موجز، رحل المفكر السوري جورج طرابيشي عن 77 عاماً
بعد أن دوّن مقالته الأخيرة بعنوان "ست محطات"، مستعرضاً فيها سيرته الذاتية بشكل موجز، رحل المفكر والباحث السوري جورج طرابيشي، وهو الذي اعترف بتأثره الكبير بالفلاسفة الكبار وترجم لهم الكثير، أمثال سيجموند فرويد، وجورج فريدريش هيغل، وجان بول سارتر، تاركاً أكثر من 200 كتاب مترجم في الرواية والفلسفة والتحليل النفسي والإيديولوجي، ما عدا التي ألفها على مدار نصف قرن.
فاجأ طرابيشي "بن مدينة حلب السورية" العالم العربي برحيله عن عمر ناهز 77 عاماً، مساء أمس الأربعاء، مخلفاً فكراً وفلسفة في المجال النفسي والعقلي البشري، لا يمكن حسابه بالأيام والسنين.
وعُرف طرابيشي بانتقاده العقل العربي، ولاسيما أنه انتقل عبر محطات الفكر القومي والثوري والوجوديوالماركسي.
وبحسب النقاد، فقد انتهى طرابيشي إلى تبني نزعة نقدية جذرية يرى أنها "الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عن المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر"
ومن الطبيعي حين التعرج على حياة طرابيشي أن نعلم أن "معجم الفلاسفة" بات مرجعاً للدارسين في هذا المجال، فيما تميز بمشروعه الأضخم في خمسة مجلدات، والذي قضى في كتابته 20 عاماً، وهو "نقد نقد العقل العربي"، بعد أن خصص الجزء الأخير منه لـ "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، والصادر عن دار الساقي في بيروت عام 2010.
وتمثل هذا في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري في مؤلفه "نقد العقل العربي"، عبر قراءة ومراجعة التراث اليوناني والأوروبي والعربي الإسلامي الكلامي والفقهي والصوفي واللغوي والفلسفي.
ولعل ما يتذكره النقاد "من النهضة إلى الردة" و"هرطقات 1 و2".
أي عموماً، يمكن تقسيم الإنتاج الفكري لطرابيشي إلى مرحلتين هامتين؛ الأولى تبني الإيديولوجيات الغربية الحديثة من ماركسية إلى قومية، مع تجاهل التراث، والثانية نقد العقل العربي"الجابري".
آليات"نقد نقد العقل العربي"؟
يعلل جورج طرابيشي مسألة قطيعته للتراث في أحد حواراته الصحفية بأنها عائدة إلى أن جيله جاء كنتاج جيلين نهضويين"جيل الثورة"؛ هذه الثورة اتجهت كلياً نحو الأفكار الغربية الماركسية.
هذه العوامل جعلت طرابيشي يعيد النظر في موروثه الثقافي، حيث تجلى الأمر لديه باشتعال الحرب الأهلية في لبنان، إذ كان يقيم فيها، وهروبه منها حينئذ.
وإعادة النظر في الموروث أفرزت لديه غريزة النقد التي لم تتوقف عند حد معين، بل كانت غزيرة فلسفية ذات ثلاثة محاور، هي نقل وترجمة عيون الفكر الغربي الحديث والمعاصر إلى العربية، ونقد الفكر العربي/الإسلامي الحديث والمعاصر، والبحث في التراث ونقده.
"نقد نقد العقل العربي" كانت ثورة بحد ذاتها كموسوعة في القرن العشرين، ما عرضه لكثير من الانتقادات اللاذعة، لكن رده جاء كالتالي: "الواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، ولكن ليس محطة الوصول. فقد كف مشروعي عن أن يكون مشروعاً لنقد النقد ليتحول أيضاً إلى إعادة قراءة وإعادة حفر وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل. وحسبي دليلا على ما أقول أن الجابري لم يكتب، مثلاً، سوى نصف صفحة، لا أكثر، لـ "يهرمس" كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية ولينسبه إلى علوم "العقل المستقيل". وهأنذا أكتب نحواً من تسعين صفحة لأعيد بناء هذا الأثر النادر من الموروث القديم في عقلانيته العلمية السابقة لأوانها تاريخيا"، وفقاً لـ "العقل المستقيل في الإسلام"، ص 9
.
وهذا المشروع يمكن القول إن في جوهره نقضاً للأسس المعرفية "الإبستيمولوجية"، ومن ثم "نقض" للنتائج التي انتهى إليها، هذا حسب الاستنتاج الفلسفي، الذي انتقد ما يسميه التوظيف الإيديولوجي للمنهج والوقائع.
ومن الملاحظ الهجوم الواضح"النقد" لكافة المفاهيم التي طرحها الجابري، سواء فيما يتعلق بالإبستيمولوجية أو المعنى الجغرافي للشرق والغرب، أو "لا يمثل الغرب والشرق في مشروع الجابري مقولتين جغرافيتين، بل هما مرفوعتان عنده إلى مقولتين إبستمولوجيتين، أي مقولتين تحددان النظام المعرفي للعقل بما هو كذلك"، وفقاً لما كتب طرابيشي.
وفي إطار آخر، يؤيد طرابيشي تصوره للعلمانية الإسلامية من داخل النص القرآني نفسه، حتى إن منهج التحليل النفسي لجأ إليه لنقد الواقع الفكري والثقافي العربي.
من هو جورج طرابيشي؟
ولد المفكر السوري جورج طرابيشي في مدينة حلب عام 1939 وحصل على الليسانس في اللغة العربية ثم الماجستير في التربية من جامعة دمشق.
عمل مديراً لإذاعة دمشق بين عامي 1963 و1964 ورئيسا لتحرير مجلة"دراسات عربية" بين عامي 1972 و1984 ومحرراً رئيسيا لمجلة"الوحدة" أثناء إقامته في لبنان بين عامي 1984 و1989، وغادر بعد ذلك لبنان إلى فرنسا التي أقام بها متفرغاً للكتابة والتأليف.
ترجم العديد من أعمال كبار المفكرين والفلاسفة الغربيين، وقدم عدداً من الدراسات والأبحاث في الفكر والفلسفة والنقد الأدبي منها"الماركسية والمسألة القومية" و"رمزية المرأة في الرواية العربية" و"مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة" و"مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام" و"الماركسية والإيديولوجية" و"سارتر والماركسية" و"النزاع الصيني السوفياتي" و"الاستراتيجية الطبقية للثورة".
aXA6IDMuMTQuMTM1LjgyIA== جزيرة ام اند امز