السيسي يدرك حقيقة كل أطراف الصراع الدولية والإقليمية وتآمر حلف قطر - تركيا - التنظيم الدولي لجماعة الإخوان مع الامتدادات الإيرانية.
أصعب أيام «عبدالفتاح سعيد حسين السيسي» منذ أن ولد في 19 نوفمبر 1954 حتى اليوم، هو يوم 26 مارس 2014.
لماذا؟
لأنه ذلك اليوم الأصعب في مساره المهني والشخصي الذي سوف يضطر فيه أن يترك سترته العسكرية ومنصبه كوزير للدفاع ويتقدم باستقالته من المنصب العسكري كي يقدم أوراق ترشحه لرئاسة جمهورية مصر العربية.
قانون الفعل ورد الفعل عند السيسي بدأ من قَسَم الحكم وينتهي به لأنه بتركيبته النفسية والروحانية يدرك أنه سيقف ذات يوم أمام ملك الملوك العدل الحسيب الرقيب الذي سوف يسأله: ماذا فعلت بقسمك؟ هذا هو الفهم الصحيح لرئيس مصر
12 شهراً مرت عليه، حتى اتخذ هذا القرار الصعب، يعانده النوم، تساوره الشكوك، يتأرجح بين تلبية نداء الواجب لخدمة الوطن كرئيس للبلاد وبين «استهوال» حجم التحدي الذي يتعين عليه أن يحمله على كتفيه.
كان يقول لزوجته السيدة انتصار عامر وأبنائه محمود وحسن وآية وداليا «حكم مصر ليس منحة أو استمتاعاً بسلطة، لكنه - في هذه الظروف - ابتلاء عظيم وحملٌ لا يطيق حمله بشر».
وحينما كان يزوره بعض المقربين في مكتبه بوزارة الدفاع لمحاولة «إقناعه بضرورة الترشح للرئاسة» كان يخاطب مدير مكتبه حينئذ - اللواء عباس كامل: «يا سيادة اللواء قول للناس الطيبين دول حقيقة التقارير اللي عندنا عن وضع البلاد والعباد».
كان يدرك حينما دخل في أعماق أعماق الملفات الداخلية لمصر، واطلع على حقائق الوضع المالي والخلل الأمني، والاختراقات الخارجية، وسوء أوضاع الشرائح الاجتماعية، وارتفاع منسوب الفقر والمرض ومشاعر الإهمال وعدم الرضا والسخط لدى ملايين المصريين التي تراكمت على مدار أكثر من نصف قرن، أن الوضع جد خطير وأن الحكمة تقول له: «لا تقترب»، والمنطق يستدعي «الابتعاد» عن المسؤولية، والسلامة الشخصية تفرض عليه أن يبقى في مقعد وزارة الدفاع، والمصلحة الخاصة المحضة تجعله يختار في نهاية المطاف «وزير دفاع سابق» بدرجة مشير أفضل من أن يكون رئيساً مخلوعاً تثور عليه الجماهير الغاضبة لعجزه عن تحقيق الحد الأدنى من أحلامها.
لكن الرجل اختار الحل الأصعب، والتحدي الأخطر والخيار شبه الانتحاري!
أن تكون رئيساً لبلد يزداد تعداد سكانه بمعدل طفل جديد كل 25 ثانية هو تحدٍّ مخيف.
أن تكون رئيساً لبلد وصبيحة يوم توليك السلطة يكون هناك هبوط للاحتياطي النقدي من 37 مليار دولار إلى 12 ملياراً، منها 6٫5 مليار ليس لك حق التصرف فيها والباقي فوائد مستحقة لسداد ديون.. هذا هو الخطر الذي لا يعلوه خطر.
أن تكون مسؤولاً بشكل يومي عن توفير 400 مليون رغيف مدعوم للفقراء والمعدمين هو تحدٍّ مستحيل.
أن يكون معدل البطالة صبيحة تسلمك للحكم 38٪ (هذا الرقم الرسمي المتحفظ) هو مسؤولية لا يقدر عليها إنسان كائناً من كان.
أن تحكم بلداً تم اختراق حدوده من الجنوب والشمال والشرق والغرب واستباحة سواحله لتهريب 17 مليون قطعة سلاح على الأقل ووجود ما لا يقل عن ألف ورشة لتصنيع سلاح محلي، وأطنان من مادتي «السي فور» والـ«تي إن تي» المدمرة هو خطر أمني في ظل وجود تنظيمات ومليشيات مسلحة منتشرة داخل كل المدن والقرى المصرية.
أن تُرفع الأعلام الداعشية السوداء فوق 3 معسكرات كبرى في سيناء، وتخرج مظاهرة عسكرية علنية بأكثر من 500 سيارة رباعية الدفع في رفح والعريش من قوى الإرهاب التكفيري فهذا احتلال من نوع جديد وتهديد سافر لأمن البلاد والعباد.
وهناك ما لا يقال ولا يمكن الخوض فيه الآن، وقد حرص الرئيس أخلاقياً وأمنياً على عدم الخوض فيه وتعامل معه بصبر وصمت حتى لا يصيب الناس بالهلع أو يقوم بتصدير الطاقة السلبية للرأي العام. تحمّل الرجل كل هذا منفرداً.
ولكن ما الذي يجعل هذا الرجل متماسكاً صامداً يضع دائماً ابتسامة الرضا على وجهه ولديه ثقة لا نهائية بأن كل الهموم ستزول وكل المشاكل سوف تحل وغداً سيكون أفضل من اليوم، ومصر -بإذن الله- ستكون بخير.
لمعرفة مفاتيح قوة الرجل، وعناصر «قانون الفعل ورد الفعل» عنده لا بد من التوقف بعمق أمام المحطات التالية:
1- نشأ الطفل عبدالفتاح السيسي في حي الجمالية، وهو حي يجمع بين الروحانية، وحركة تجارة الجملة والانفتاح الكامل على سياحة الموالد الشعبية، والسياح الأجانب.
2- والدته السيدة سعاد علمته مخافة الله، وحب الناس ومبدأ الإيثار.
3- والده سعيد خليل السيسي الذي كان يمتلك مصنعاً صغيراً لتصنيع التحف والمشغولات للسياح غرس فيه الانضباط العملي، والمثابرة، والدقة في الحرفة وما يقوم ببيعه في بازار في المنطقة السياحية.
4- وجوده في مجال تسويق وبيع المنتجات السياحية والمشغولات «الأرابيسك» أعطاه قدرة على مهارة البيع والشراء والتفاوض الذي لا يعرف الكلل أو الملل، لذلك فإن خبرة «البازار» تجعله يفهم منطق «البازار» الذي يحكم العقلية السياسية.
5- دراسته للقرآن في حي الجمالية ومداومته على صلاة الفجر في منطقة الحسين جعلت بداخله روحاً دينية صادقة حتى إنه كان معروفاً في بداية صباه باسم «الشيخ عبدالفتاح».
6- تأثره بفكرة الانضباط العسكري والعمل الوطني «داخل مؤسسة لا تعرف التراخي أو الإهمال أو الفساد» جعله يحلم بالحياة العسكرية فالتحق بالثانوية الجوية عام 1970 (لاحظ أن الرجل ظل يرتدي البدلة العسكرية من 1970 حتى 2014).
7- تخرجه في الكلية الحربية عام 1977 كان عن «عشق وحب للرسالة» وليس بحثاً عن وظيفة أو مصدر دخل، لأن المستوى الاجتماعي لأسرته كان ميسوراً، وكان يذهب أحياناً إلى الكلية الحربية بسيارة خاصة رفيعة المستوى حديثة الطراز.
8- حصل دائماً على ثقة واحترام رؤسائه في المؤسسة العسكرية داخل أسلحة المشاة فأصبح قائداً لها، ثم قائداً للمنطقة العسكرية الشمالية حتى أصبح قائداً لسلاح المخابرات العسكرية والاستطلاع.
واختيار القائد لسلاح المخابرات الحربية والاستطلاع يعني دائماً وأبداً أن مَن يتولاه لا بد أن تتوافر فيه شروط:
1- الانضباط والولاء المطلق.
2- الخبرة السياسية والرؤية الأمنية.
3- خلو ملفه الوظيفي السابق أو الحالي من أي نقيصة أو نقطة ضعف أو مكمن خطأ.
- جاء سقوط جهاز المعلومات في أمن الدولة نتيجة المؤامرة المتعمدة لإسقاط دور وزارة الداخلية من قبل جماعة الإخوان لتلقي لأول مرة في تاريخ مصر بملف الأمن الداخلي على جهاز المخابرات الحربية، ما أتاح للرجل أن يطلع على «أحشاء السياسة المصرية من الداخل» بشكل لم يُتَح من قبل لمسؤول عسكري.
مهمة السيسي كملحق عسكري في الرياض أتاحت له فرصة عميقة لفهم حقيقة ملفات السياسة والأمن وشؤون الدفاع في منطقة الخليج.
كل ذلك أدى إلى تكوين مزيج من الخبرة الحياتية والثقافية والسياسية التي أهّلت الرجل إلى كتابة بحثه المهم في كلية الحرب الأمريكية وهو بحث استراتيجي بعنوان: «الديمقراطية في الشرق الأوسط»، قدمه في 15 مارس 2006، تبلغ كلماته 5127 كلمة كل واحدة منها تعبر عن خلاصة فكر الرجل في شؤون الحكم ومستقبل المنطقة المضطربة.
هنا نلاحظ في هذا البحث الآتي:
1- تركيز الباحث على الفارق الجوهري بين الثقافتين «الشرق أوسطية» و«الغربية» في مفهوم الديمقراطية.
ولاحظ أن الرئيس عاد وأبرز أيضاً هذا الفارق في اختلاف الرؤى حول «أن الأمن ومقاومة الإرهاب هي أيضاً أحد حقوق الإنسان».
2- تأثير الفقر والخلل في الخطاب الديني
3- مخاطر أشكال الديمقراطيات الجديدة على المنطقة وكأنه يتنبأ بتدخلات الخارج في الربيع العربي.
وحينما أصبح عبدالفتاح السيسي رئيساً لمصر استحضر ذلك كله وهو يبدأ مشوار الألف ميل.
وحتى لا نطيل أو نسهب فيما أنجزه الرجل في زمن غير مسبوق يصل إلى مستوى الاستحالة، وحتى لا يتهم الإنسان بالتفخيم أو التهويل نتناول شهادة رسمية لصندوق النقد الدولي صدرت منذ أيام عن أداء الاقتصاد المصري "لاحظ أن الصندوق ليس صديقاً -أبداً- للدول التي تقوم بتحولات اقتصادية وإصلاحات كبرى وهو جهاز دائم الانتقاد والشكوى والضغط على حكومات العالم الثالث".
يقول ملخص التقرير المطول:
التقرير صادر بتاريخ 17 مايو الحالي بعد زيارة بعثة الصندوق لمصر خلال هذا الشهر (من 5 إلى 16) برئاسة السيد «سوبير لال» لمراجعة الحصة الخامسة الأخيرة من برنامج المساعدات «أن مصر قد نفذت على مدار 3 سنوات برنامج إصلاح طموحاً يهدف إلى تصحيح الاختلالات الخارجية والمحلية الكبيرة» وأضاف التقرير أن ذلك نتج عنه:
1- استقرار الاقتصاد الكلي وإنعاش النمو.
2- تسارع نمو الناتج المحلي من 4٫2٪ من عام 2016 - 2017 إلى 5٫3٪ بعد عام.
3- انخفاض البطالة من 12٪ إلى 9٪.
4- تقلص العجز في الحساب الجاري من 5٫6٪ إلى 2٫4٪.
5- زيادة الاحتياطيات الدولية من 17 ملياراً في يوليو 2016 إلى 44 مليار دولار أمريكي في مارس 2019 (انتهى التقرير).
وهنا لن نتحدث عن قناة السويس والأنفاق والمدن الجديدة وإسكان العشوائيات وبناء 12 محافظة جديدة والعاصمة الإدارية وأعرض كوبري معلّق في العالم، وعلاج فيروس سي وقائمة لا تنتهي.
هنا سنتحدث عن استقرار الحالة الأمنية على حدود مصر من ناحية الغرب (ليبيا) والجنوب (السودان) والشرق (غزة وإسرائيل). وليس من المصادفة أن هناك دوراً مصرياً داخلياً في كل هذه الملفات يستخدم كل عناصر الحكمة والقوة معاً في تحقيق التهدئة والاستقرار الأمني.
وفهم البعض مؤخراً لماذا حرص الرئيس السيسي منذ يومه الأول في وزارة الدفاع حتى الآن على تحديث وتطوير تسليح وهياكل وبرامج تدريب الجيش المصري حتى قفز من التصنيف الخامس عشر إلى التاسع في ترتيب جيوش العالم.
وحينما تم اكتشاف أكبر احتياطي غاز قبالة السواحل المصرية فهم العالم لماذا حرص الرئيس السيسي على شراء حاملتي هليكوبتر من فرنسا، وغواصات من ألمانيا، وطائرات الرافال من فرنسا، والقاذفات والصواريخ الحديثة من روسيا.
يدرك هذا الرجل جيداً أن خطورة الوضع الإقليمي ذات تأثير جوهري على استقرار المنطقة ومدى سلامة الدولة الوطنية المطلوب تفتيتها وتقسيمها.
ويدرك أن التوترات في المنطقة وإن كانت ذات أصول حقيقية وأسباب محلية وتاريخية إلا أن الهدف من تذكيتها هو إضعاف الدول الوطنية واستنزاف اقتصادها ومواردها بشكل دائم حتى لا تقوم لها قائمة.
يدرك الرجل أن القسم الذي أداه حسب المادة 144 من الدستور:
«أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصاً على النظام الجمهوري وأن أحترم الدستور والقانون وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة وأن أحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه».
ويدرك أن خروج 33 مليوناً في ثورة 30 يونيو 2013 وذهاب 27 مليوناً في الاستفتاء الأخير يضعان عليه عبئاً إنسانياً ومسؤولية أخلاقية في «حماية وتأمين الوطن».
لا يريد «السيسي» أن يُستدرج جيش بلاده إلى حرب إقليمية مهما كانت الاستفزازات.
لعبوا معه هذه اللعبة وفشلوا، في مسألة مياه النيل في إثيوبيا، أو في حلايب وشلاتين في السودان، أو في عمليات الاختراقات الأمنية والإرهاب من ليبيا، أو جماعات الإرهاب التكفيري من غزة.
وفي اليمن، اختارت مصر بحكمة أن تؤدي دورها في الحماية البحرية والاستطلاع الجوي، وفي سوريا ثبت للجميع أن الموقف المصري كان الأكثر حكمة في عدم التورط.
هنا، وبعد كل ما سبق، نسأل: ماذا ستفعل مصر -تحت قيادة السيسي- في مسألة التصعيد العسكري الإيراني-الأمريكي، ومحاولة تحويل الخليج العربي إلى بحيرة زيت ممزوجة بالدماء؟
أستطيع أن أقول -بضمير مستريح- إن الرئيس عبدالفتاح السيسي الذى يدرك حقيقة مواقف جميع أطراف الصراع الدولية والإقليمية وتآمر حلف قطر-تركيا-التنظيم الدولي لجماعة الإخوان مع الامتدادات الإيرانية في المنطقة أنه سوف يتخذ القرار الصائب الذي يمزج بين مصلحة مصر العليا والتزامها الاستراتيجي والأخلاقي تجاه الأشقاء في الخليج.
وأستطيع أن أؤكد أن الرجل الذي يتذكر القسم الذي أداه يوم حلف اليمين الدستورية أمام الله ومجلس النواب والشعب والعالم. يتذكر الرجل هذا القسم كبوصلة الاتجاه الأساسية في كل قرار يفكر فيه أو يتخذه.
إنه يضع «سلامة الوطن» ومصالح شعبه ووحدة وسلامة أراضيه أولوية مطلقة.
لذلك لم يستدرج في مؤامرات قطر، أو عمليات تخريب حماس أو عمليات إرهاب داعش أو تآمر حكم البشير وإن قام برد الفعل المناسب القوي والحكيم في آن واحد.
أهم منطقة جوهرية في فهم التزام مصر الاستراتيجي تجاه أمن المنطقة، وبالذات تجاه أمن دول الخليج أن تعريف الخطر عند مصر حينما تمس سلامة التراب الوطني وسلامة حدود هذه الدول، هذا موقف راسخ وقديم طبقه الرئيس عبدالناصر مع تهديد الكويت، والرئيس مبارك في غزو الكويت وتهديد السعودية.
مصر لا تتورط، ولا تبتلع أي «طعم استراتيجي» لاستدراجها لكنها لن تتخلى عن مصالحها الاستراتيجية في حماية أشقائها وأمن البحر الأحمر وسلامة حركة التجارة والعبور من وإلى قناة السويس.
قانون الفعل ورد الفعل عند السيسي بدأ من قَسَم الحكم وينتهي به لأنه بتركيبته النفسية والروحانية يدرك أنه سيقف ذات يوم أمام ملك الملوك العدل الحسيب الرقيب الذي سوف يسأله: ماذا فعلت بقسمك؟
هذا هو الفهم الصحيح لرئيس مصر.
(يتبع)
نقلاً عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة