المشروع الإيراني لا ينسجم مع المشروع العربي العام والسوري على وجه الخصوص ومهما استطاع تسلق بعض النزاعات العربية العربية لتعويم نفسه.
لقد برزت إيران على الساحة العربية منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ولكن هذا لا يعني أن ذلك التاريخ هو بداية التدخل الإيراني في الشؤون العربية، بل إن محاولة التقرب الإيراني كانت قبل ذلك بكثير ولكن كان هذا التاريخ بوابة التدخل المباشر الذي أخذ يتنامى ويتعاظم حتى اندلعت موجة ما سُمي "الربيع العربي" التي ما إن اجتاحت سوريا حتى ظهرت إيران كحليف مباشر للحكومة السورية بحكم الوضع الراهن الذي كانت تقاسيه، لتدخل روسيا بعد ذلك على خط الأحداث كحليفٍ وداعم مباشر لدمشق. عندها بدأ الدور الإيراني بالتراجع، ولكنّ السؤال المطروح: إلى متى ستبقى إيران في سوريا؟
كل هذه الأسباب تجعل "إيران" حصاناً منفرداً خارج المضمارين الإقليمي والدولي، حصاناً وإن اقتحم السباق لبرهة من الوقت مستغلاً مناخ الاستعداد المشوب بالترقب والانتظار إلى حين ترتيب الأوراق، إلا أنّه حصان خاسر ضعيف لا مكان له ضمن التحالفات العربية مهما كان الوضع متوتراً
لا شكّ أنّ المشروع الإيراني لا ينسجم مع المشروع العربي العام والسوري على وجه الخصوص ومهما استطاع تسلق بعض النزاعات العربية العربية واستغلالها لتعويم نفسه. وهذا يعود لعدة أسباب رئيسة تنْظِمُ مثل هذه التحالفات، بالإضافة إلى عدم انسجامه مع النظام الدولي ككل. ويمكن بسط هذه الأسباب كالآتي:
أولاً السبب الأيديولوجي: حيث إن المشروع الإيراني القائم على تصدير مشروع الثورة الخمينية بأيديولوجية دينية طائفية ضيقة، لا يتماشى والمشروع القومي العربي ويتعارض أيضاً مع الأيديولوجيا الفكرية لنظام الحكم في سوريا الذي يستند إلى العلمانية. فالنظام السوري قائم على منطلقات فكرية مستمدة من الفلسفة الاشتراكية وهذا ما يفسر عدم وصول التقارب السوري الإيراني إبان حكم الرئيس السوري الراحل "حافظ الأسد" إلى نقطة الانسجام التام. وهذا ما يفسر حسن علاقة سوريا بأشقائها العرب؛ إذ إن الأسد الأب لم يقدم العلاقة مع طهران على علاقته بالرياض مثلا، فكانت سوريا تحتل مكانة أقوى بكثير مما هي عليه الآن.
كما أن الثقافة المجتمعية والشعبية للشعب السوري الذي نشأ على تعاليم وسطية الدين مفرقاً بين العلاقة الدينية والمعتقد الذي يوصله إلى الله، وبين التعايش والإسهام في بناء الدولة الموحَّدة تجعل طرفي البلاد المتمثلين بالفكر السياسي للنظام الحاكم والفكر الاجتماعي والثقافي للشعب المحكوم في سوريا لا يقبل بالمشروع الإيراني ولا يرتضيه حليفاً فاعلاً مقرّباً على المدى البعيد.
ثانياً تضارب المصالح بين الحلفاء: فبعد دخول "روسيا" على خط المواجهة بجانب الحكومة السورية، بدأ الدور الإيراني بالتراجع عسكريا وسياسيا. بل إن "إيران" باتت تتوجس الخيفة منذ بداية التدخل الروسي، إذ أيقنت أن الساحة السورية لن تكون مفتوحة لها لتنفيذ أجنداتها السياسية بأريحية بعد دخول الحليف الروسي إلى الساحة السورية.
ولعل العنوان الأبرز لهذه الهواجس هو محاولة إيران الزج بمقاتلين معتنقين للمذهب الشيعي ومن مختلف الجنسيات الإيرانية وغير الإيرانية لخلق نوع من التوازن مع الروسي وليس لتقوية جبهة التحالف الحكومي السوري ضد معارضيه كما سوقت إيران لهذا عندما بدأت به.
ولكن روسيا لم تغفل هذا الجانب، إذ كانت حريصة على أن تكون الشرطة العسكرية الروسية هي التي تدير مناطق النزاع بعد أن يتم التفاهم على تهدئة جبهاتها كما حدث في كل من دمشق، ودرعا، وحمص، وحماة، والساحل السوري.
لقد بدأت روسيا بتنحية الإيراني تدريجياً مستغلة النفس العام الشعبي فتجد مثلا المعارضة ترفض أي تسوية بإشراف إيراني في حين تقبل -ولو بعد حين–بالتسويات التي ضمنها الجانب الروسي، فروسيا لا يناسبها أن يكون لها شريك مزعزع موتّر للأوضاع التي تسعى لتهدئتها كالشريك الإيراني الذي لا يرقى لأن يكون نداً لها، ولا يلقى القَبول الشعبي الداخلي سواء الموالي أو المعارض. بالإضافة إلى تباين المشروعين الروسي الاستراتيجي القائم على الموازنات الدولية والمشروع الإيراني الطائفي الضيق وهذا ما يفسر الصمت الروسي عن الضربات الإسرائيلية المستمرة لمناطق السيطرة الإيرانية على الأرض السورية.
ثالثاً وهو العامل الدولي: فقد سادت الرغبة في القضية السورية منذ يومها لأن تكون ذات طابع دولي لا محلي ولا حتى إقليمي، بل إن القوى الإقليمية والدولية كلها وضعت يدها على الساحة السورية ذات البُعد العالمي الاستراتيجي؛ ما جعل الأزمة السورية لا تحتمل أيّ حل بعيد عن تفاهم دولي عام يراعي المصالح الإقليمية والدولية. ومن المعلوم أنّ كلّ الأطراف الإقليمية والدولية ترى إيران جزءاً من المشكلة لا يمكن لها أن تكون جزءاً من الحل لا سيما على المستوى الإقليمي العربي. وهذا ما جعل إيران فاقدةً للحمل الإقليمي والدولي في ضوء السياسة الدولية العامة التي وإن شاب بعض أطرافها تضارب في المصالح -كما بين الجانبين الغربي والروسي والعربي الروسي- إلا أن هذا التضارب في المصالح الحاصل لا يعدم قنوات الاتصال وإمكانية التفاهمات القائمة على تقاطع المصالح والتوازنات الدولية.
كل هذه الأسباب تجعل "إيران" حصاناً منفرداً خارج المضمارين الإقليمي والدولي، حصاناً وإن اقتحم السباق لبرهة من الوقت مستغلاً مناخ الاستعداد المشوب بالترقب والانتظار إلى حين ترتيب الأوراق، إلا أنّه حصان خاسر ضعيف لا مكان له ضمن التحالفات العربية مهما كان الوضع متوتراً بين الأشقاء العرب ولا حتى ضمن التحالفات الدولية التي تراعي المصالح والسياسات الاستراتيجية المقبولة عالمياً، لا السياسات الضيقة المؤطرة ضمن أيديولوجيات مدمرة كالأيديولوجية الإيرانية لذلك نستطيع القول إنّ لحظة خروج إيران من سوريا ليست ببعيدة بل تلوح في الأفق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة