أفريقيا وأزمة الديون.. خريطة دائنين جديدة واقتراض محلي متصاعد
اعتبر تحليل نشرته مجلة «الإيكونوميست» أن أزمة الديون الأفريقية عادت إلى صدارة الاهتمام الدولي مجدداً.
جاء هذا بالتزامن مع انعقاد قمة مجموعة العشرين لأول مرة في القارة السمراء بجوهانسبرغ. وتأمل جنوب أفريقيا أن يشكل الحدث فرصة لإعادة تسليط الضوء على التحديات المالية التي وصفها الرئيس سيريل رامافوزا بأنها «تخنق الإنفاق العام والنمو الاقتصادي».
ووفقا للتحليل، فإن البيانات تشير إلى تفاقم جذري في وضع الديون؛ إذ ارتفعت الديون الحكومية في أفريقيا جنوب الصحراء إلى نحو 59% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ضعف مستويات 2012 تقريبًا. ويصنّف صندوق النقد الدولي 20 دولة في المنطقة بأنها في «ضائقة ديون» أو مهددة بها.
كما أن 32 دولة أفريقية تنفق على خدمة ديونها أكثر مما تنفقه على الصحة، و25 دولة تتجاوز تكاليف ديونها ميزانيات التعليم، وهو ما يعكس اختلالًا هيكليًا يعوق التنمية. ويرى وزير المالية الجنوب أفريقي السابق تريفور مانويل أن القارة «تتخلف عن التنمية» بفعل عبء الديون المتنامي.
وبعكس بداية الألفية، لم تعد الدول الغربية في مزاج يسمح بتخفيف واسع لأعباء الديون كما حدث عام 2005. فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب قاطع قمة مجموعة العشرين ووجّه مسؤوليه بعدم حضورها، فيما لم يحقق «الإطار المشترك» لإعادة الهيكلة الذي أطلقته المجموعة خلال الجائحة نتائج تذكر؛ إذ لم تتجاوز قيمة الإعفاءات في أربع دول أفريقية مشاركة 7% من ديونها بالقيمة الحالية.
وفي الوقت نفسه، تغيّر المشهد الدولي للدائنين. فبينما تستحوذ المؤسسات متعددة الأطراف على نحو ثلث الديون الخارجية، أصبح القطاع الخاص أكبر الدائنين بنسبة 43%، أغلبها سندات يوروبوند مقوّمة بعملات أجنبية، تتسم بمرونة سياسية منخفضة يمنع مصالحها التجارية من تقديم تنازلات كبيرة. أما الصين، أكبر الدائنين الثنائيين، فهي تميل إلى تأجيل السداد لا إلى إسقاط الديون، ما يحد من قدرة الدول على تخفيف عبء التزاماتها.
انفجار الديون
لكن القضية الأكثر تعقيدًا تكمن في الانفجار السريع للديون المحلية. فوفق معهد «كيل» الألماني، ارتفع الاقتراض الحكومي المحلي من 150 مليار دولار عام 2010 إلى نحو 500 مليار دولار في 2024، ما يمثل «تحولًا جوهريًا» في طبيعة الالتزامات المالية للحكومات. ويقدّر صندوق النقد أن نصف ديون أفريقيا جنوب الصحراء باتت مستحقة للبنوك المحلية.
ورغم أن الاقتراض بالعملة المحلية يفترض أن يحمي الحكومات من تقلبات أسعار الصرف، فإنه غالبًا أعلى تكلفة؛ فالفائدة على القروض المحلية تزيد عادة بـ3 إلى 6 نقاط مئوية على القروض الخارجية الميسرة. وفي دول مثل غانا وموزمبيق، التي تعثرت في السنوات الأخيرة، لجأت الحكومات إلى الاقتراض الداخلي بفوائد مرتفعة وآجال قصيرة بعد فقدان الثقة في أسواق الدين الخارجية. وفي كينيا، التي تُعد من أكثر الدول إرهاقًا بخدمة الدين مقارنة بالإيرادات، ستعتمد الحكومة على السوق المحلية لتأمين ثلثي حاجتها التمويلية في 2025.
ويؤدي هذا المسار إلى مخاطر على القطاع المصرفي نفسه؛ فالبنوك الأفريقية تحتفظ بأكثر من 20% من أصولها في ديون حكومية، وهي أعلى نسبة عالميًا. كما تتعرض لخطر «القمع المالي» في حال تآكل القيمة الحقيقية لسنداتها بفعل التضخم، إذ تبيّن بيانات معهد كيل تراجع قيمة بعض السندات المحلية بنحو 20% سنويًا بالقيمة الحقيقية.
كما يهدد توسع الاقتراض الحكومي داخليًا بزيادة مزاحمة القطاع الخاص. فوفق الخبيرة الأممية فيرا سونغوي، يؤدي تضخم الديون المحلية إلى تقليص الإقراض الموجه للمشاريع الإنتاجية، ما يضعف محركات النمو الضرورية لخفض أعباء الديون مستقبلاً.
فرصة على المدى البعيد؟
ورغم خطورة الوضع، يرى بعض الاقتصاديين أن تطوير أسواق رأس المال المحلية قد يمثل فرصة طويلة الأجل، شريطة السير على خطى التجارب الآسيوية الناجحة. غير أن الطريق لا يزال طويلاً، إذ تنجح دول مثل موريشيوس ورواندا وتنزانيا في إنشاء أسواق دين أطول أجلاً، فيما تظل دول أخرى عالقة في فخ الاقتراض قصير الأجل من مصارفها المحلية.
وفي المحصلة، يدخل ملف الديون قمة العشرين محاطًا بتحديات متشابكة تجعل الأزمة أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، في حين تقف أفريقيا أمام معادلة صعبة: ضرورة تمويل التنمية، وضرورة ضبط الديون، لتفادي أزمات أشد قسوة في المستقبل.