بعد الهدنة.. «عدو صامت» يهدد غزة
بينما ركّزت الأنظار على بنود نزع السلاح وتبادل الرهائن في اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 8 أكتوبر/تشرين الأول بين إسرائيل وحركة حماس، كان البند المتعلق بتدفق المساعدات الإنسانية يُفترض أن يكون الأسهل تنفيذًا.
لكن ما إن دخل الاتفاق حيّز التنفيذ حتى اتضح أن الجوع، لا الصواريخ، قد يصبح التهديد الأكبر لاستمرار الهدنة، وأن البنية التحتية المنهكة والمناورات السياسية قد تدفع غزة إلى انهيار إنساني شامل يهدد السلام الهش، وفق تحليل لـ«فورين أفيرز».
- «غزة الجديدة» بين الفرصة الأمريكية والمخاوف الفلسطينية
- القائد المدني لمركز التنسيق بشأن غزة.. من هو ستيفن فاغين؟
«حصار المساعدات»
كان من المقرر – وفق ما تضمنته «خطة ترامب ذات النقاط العشرين» – إدخال 600 شاحنة مساعدات يوميًا إلى القطاع دون عراقيل، لتلبية الاحتياجات الأساسية لسكان غزة الذين أنهكتهم الحرب والمجاعة والنزوح.
لكن بعد أسبوعين فقط من توقيع الاتفاق، تحولت الوعود إلى عراقيل جديدة.
فقد أجّلت إسرائيل إعادة فتح معبر رفح الحيوي، وخفّضت عدد الشاحنات إلى النصف، مبرّرة القرار بعدم تسلّمها جثث الرهائن القتلى من حماس، رغم تأكيد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن عملية الاستعادة تتطلب معدات متخصصة ووقتًا أطول.
ثم هددت تل أبيب بإغلاق شامل للمعابر بعد حادثة إطلاق نار في رفح، لكنها تراجعت تحت ضغط أمريكي مباشر حين تبيّن أن الحادث ناتج عن ذخيرة غير منفجرة.
في المقابل، توقفت منظمات إنسانية كبرى عن العمل بسبب شروط تسجيل إسرائيلية جديدة، فيما بقيت مناطق واسعة من شمال القطاع خارج نطاق الوصول، رغم نصوص الاتفاق التي تؤكد على «حرية العبور الكامل».
وبحسب برنامج الأغذية العالمي، لم يدخل سوى أقل من نصف المساعدات المطلوبة حتى 21 أكتوبر/تشرين الأول، في وقت تواصل فيه مؤشرات الجوع ارتفاعها إلى مستويات كارثية.
المساعدات كورقة مساومة
وتحوّلت المساعدات الإنسانية منذ سنوات إلى أداة تفاوض وسلاح ضغط سياسي.
وبموجب معادلة «المساعدات مقابل الرهائن»، أصبح إدخال الغذاء والدواء مرهونًا بقرارات عسكرية وسياسية إسرائيلية، ما يُضفي شرعية ضمنية على سياسة العقاب الجماعي المفروضة على سكان غزة.
ورغم أن القانون الدولي الإنساني يفرض على جميع الأطراف السماح بوصول الإغاثة للمدنيين، فإن إسرائيل واصلت التحكم المباشر في قنوات التسليم.
ورفضت التعاون مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، رغم كونها العمود الفقري للشبكة الإنسانية في القطاع.
غزة على حافة المجاعة
وبعد أكثر من عامين على الحرب، يعيش سكان غزة أسوأ أزمة إنسانية في تاريخهم الحديث.
فالحصار الإسرائيلي الشامل المفروض منذ مارس/آذار 2025 دمّر كل مقومات الحياة، لتعلن الأمم المتحدة في أغسطس/آب عن اندلاع مجاعة رسمية في أجزاء من القطاع.
تقدّر المنظمة الدولية أن أكثر من 1.9 مليون فلسطيني – أي قرابة جميع سكان غزة – تعرضوا للتهجير المتكرر بفعل القصف وأوامر الإخلاء، بينما دُمّرت 80% من المساكن و89% من شبكات المياه والصرف الصحي، وأصيبت 94% من المستشفيات بأضرار جسيمة أو دُمّرت كليًا.
ويعود أصل الكارثة إلى قرار وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 بفرض «حصار كامل» يشمل منع الغذاء والماء والكهرباء والوقود.
وتم تنفيذ القرار حرفيًا، إذ استخدم الحصار كأداة ضغط عسكري وسياسي، وتحوّل مع مرور الوقت إلى سياسة تجويع ممنهجة.
انهيار الأونروا وغياب البدائل
ومنذ عام 2024، قادت إسرائيل حملة ممنهجة لإضعاف الأونروا، بلغت ذروتها بإصدار الكنيست قانونًا يحظر التعامل معها رسميًا، متهمًا الوكالة بالاختراق من قبل حماس.
ورغم أن التحقيق الأممي لاحقًا أثبت أن 9 موظفين فقط من أصل 30 ألفًا متورطون في مخالفات فردية، فإن الأضرار السياسية كانت جسيمة.
فقد أضعفت تلك الإجراءات قدرة الوكالة على إدارة عمليات الإغاثة، وأفرغت المشهد الإنساني من آلياته الأساسية.
العدالة الدولية تلاحق تل أبيب
وفي مارس/آذار 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا بالإجماع يُلزم إسرائيل بضمان وصول المساعدات الإنسانية «على نحو واسع وفوري».
حتى القاضي الإسرائيلي في المحكمة، أهرون باراك، أيد القرار.
وفي وقت لاحق، وجّهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق غالانت تتعلق بـ«جرائم تجويع المدنيين».
أما تقرير الأمم المتحدة الصادر في سبتمبر/أيلول 2025، فقد خلص إلى أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة من خلال التجويع القسري وعرقلة الإغاثة واستهداف المرافق الصحية.
ورغم رفض تل أبيب لهذه النتائج، فإنها تجد نفسها اليوم أمام مسؤولية قانونية دولية مباشرة عن ضمان استمرار تدفق المساعدات وفق اتفاق الهدنة.
واشنطن.. صمام الأمان الأخير
ووسط هذا التعقيد، يبقى الضغط الأمريكي العامل الحاسم في إبقاء المساعدات قيد التدفق.
فقد أنشأت الولايات المتحدة مركز التنسيق المدني–العسكري (CMCC)، تحت إشراف وزارة الحرب، لمتابعة تنفيذ بند الإغاثة في الاتفاق، ويضم نحو 200 جندي أمريكي يعملون على مراقبة العمليات اللوجستية وضمان وصول الشحنات.
لكن نجاح هذا المركز مرهون بتعاونه الوثيق مع منظومة الأمم المتحدة، لا باستبدالها.
فمحاولات إسرائيل السابقة إنشاء «مؤسسة غزة الإنسانية» – وهي هيئة بإدارة متعاقدين عسكريين – انتهت بكارثة دامية حين اندفع آلاف الجياع نحو مخازن الغذاء وسقط مئات القتلى.
لذلك، يقترح خبراء الأمم المتحدة إنشاء آلية رقابة دولية مستقلة بإشراف واشنطن وشركائها الإقليميين، تكون مهمتها مواجهة أي تدخل أو عرقلة وتطبيق بنود الهدنة الإنسانية.
الجوع.. تهديد صامت للسلام
ووفق «فورين أفيرز» فإنه بعد عامين من الموت والدمار، ربما تملك غزة أخيرًا نافذة صغيرة للعودة إلى الحياة، لكن السلام لن يصمد إذا جاع الناس.
فالمساعدات ليست مجرّد بند إنساني، بل ركيزة استراتيجية لاستقرار الهدنة، وإن فشل المجتمع الدولي في تأمين الغذاء والدواء والوقود سيؤدي إلى انفجار اجتماعي جديد يعيد العنف إلى الشوارع ويقوّض كل المساعي السياسية، وفق الصحيفة.
وأشارت «فورين أفيرز» إلى أن إنقاذ غزة لا يتطلب فقط وقف النار، بل وقف الجوع، وحتى يتحقق ذلك، يجب أن تتمتع الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بحرية الوصول والحماية والدعم المالي والسياسي الكامل من الدول الضامنة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuNTgg جزيرة ام اند امز