"ما زلت لا أصدق".. "العين الإخبارية" تحاور قارئ آخر نشرة براديو "بي بي سي عربي"
"أهلًا بكم في نشرة الأخبار الأخيرة من راديو بي بي سي".. بهذه الكلمات، افتتح الإذاعي المصري الدكتور هشام عبدالملك، نشرة الأخبار الختامية لإذاعة "بي بي سي عربي"، التي أُعلن قرار إغلاقها في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي.
ورغم خبرته الإذاعية الطويلة، وعمله لـ15 عامًا داخل راديو "بي بي سي"، كانت مشاعر هشام عبدالملك متناقضة قبل تلاوة النشرة الختامية ما بين الحزن والفخر، فما إن فرغ من سرد أحدث المستجدات، بادر إلى توديع مستمعي هيئة الإذاعة البريطانية في الوطن العربي، وأسدل الستار كما يلي: "إذاعة بي بي سي العربية تودع مستمعيها اليوم، حيث يتوقف بثها مع دقات الواحدة ظهرًا بتوقيت غرينيتش".
مع إغلاق آخر صفحات راديو "بي بي سي عربي"، عاود الدكتور هشام عبدالملك فتحها خلال حواره لـ"العين الإخبارية"، فتذكر لحظاته الأولى داخل مكتب هيئة الإذاعة البريطانية بالقاهرة، وأساتذته المؤثرين في مسيرته، وأبرز محطاته المهنية، وأخيرًا شعوره فور علمه بقرار الإغلاق.. وإلى نص الحوار:
كيف كان شعورك وأنت تتلو آخر نشرة إخبارية عبر أثير "بي بي سي عربي"؟
شعوري كان يتسم بالتناقض، فبينما كنت أشعر بالحزن لقراءتي آخر نشرة إخبارية عبر راديو "بي بي سي" لكنني بالفعل كنت أشعر بالفخر، فهذه لحظة تاريخية بالنسبة لي في عملي الإذاعي، وبالطبع كل من سيوثق تاريخ راديو "بي بي سي" سيقول إن آخر يوم في الإرسال كان في الـ27 من شهر يناير/ كانون الثاني من عام 2023، وإن آخر من قرأ نشرات الأخبار هو الإذاعي هشام عبدالملك.
كما هو بالطبع معلوم تاريخيًا بأن الخدمة العربية لراديو "بي بي سي" بدأت في 3 يناير/ كانون الثاني من عام 1938، وأول من قرأ نشرات الأخبار هو الإذاعي المصري أحمد كمال سرور.
وما بين هذا التاريخ وذاك، وعلى مدى 85 عامًا، قرأت قيم وقامات إذاعية بأصواتهم الشجية نشرات الأخبار في راديو "بي بي سي"، وارتبطت بها آذان المستمعين العرب عبر هذه السنوات، وكنت محظوظًا أنني كنت واحدًا منهم.
كم عامًا قضيته وسط جدران "بي بي سي"؟
التحقت براديو "بي بي سي" قبل 15 عامًا، وأستطيع القول إنها كانت وما زالت مدرسة صحفية بالمعنى الحقيقي وليست مجرد هيئة إذاعية، والسر يكمن في هذه الخلطة الإذاعية المتمثلة في المصداقية والمهنية وحرية الرأي التي ورثتها أجيال وراء أجيال. وكما يقول الشاعر العربي: "وخير الناس ذو حسب قديم.. أضاف لنفسه حسبًا جديدًا".
ما هي أهم محطاتك في راديو "بي بي سي عربي"؟
لقد فتحت لي "بي بي سي" أبواب الإبداع المختلفة في ظل بيئة إعلامية تدفع دائمًا للنجاح والتفوق والتألق، وهو ما جعلني أتفاعل مع مفردات العمل الإذاعي المختلفة بجميع أشكاله، وقد تنوعت ما بين المحطات الإخبارية متمثلة في تقديم نشرات الأخبار، والجولات الإخبارية اليومية والاستثنائية، كما أنني أعددت وقدمت برنامج "حديث الساعة" على مدى 14 عامًا، ومن بين المحطات البارزة في مسيرتي تأسيس وحدة الرياضة وإطلاق برنامج "بروح رياضية"، فضلًا عن إعداد وتقديم النشرات الرياضية اليومية.
كذلك أجريت لقاءات مع شخصيات سياسية بارزة بشكل حصري خلال برنامج "بلا قيود"، منها السيد غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا، والدكتورة مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية السودانية، والسيدة زينة عكر وزيرة الدفاع اللبنانية، والسيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية، والسيدة ريا الحسن وزيرة الداخلية اللبنانية، والقائمة تطول، كما سافرت إلى عدة دول لتغطية الأحداث المختلفة، منها دولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة الكويت، وسلطنة عمان.
احك لنا ذكرياتك مع برنامج "حديث الساعة".
أعتز كثيرًا بإعدادي وتقديمي لبرنامج "حديث الساعة" على مدى 14 عامًا، وهو برنامج حواري يومي يناقش أهم الموضوعات في الأخبار مع مسؤولين ومحللين وخبراء في موضوع المناقشة، وتعلمت فيه الكثير وكيف تكون محاورًا بكل مهنية وحرفية، وقدمت خلال هذه الأعوام الطويلة مئات الحلقات من هذا البرنامج، وكنت حريصًا على أن تكون لي شخصيتي المتفردة خلال تقديمه.
كما كان لي الشرف في أن أكون آخر من يعد ويقدم الحلقة الأخيرة من هذا البرنامج، والذي كانت أولى حلقاته بصوت الإذاعي الراحل الأستاذ حسن أبوالعلا رحمه الله، صاحب فكرة هذا البرنامج.
ومن بين الذكريات التي أحملها لهذا البرنامج حلقة تناولت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكان الضيوف ممثلين لأطراف الصراع من غزة والضفة والغربية وإسرائيل، فضلًا عن محلل سياسي مختص بشؤون هذا الصراع، وبعد بدء الحلقة بـ7 دقائق فقدنا في البرنامج جميع الخطوط الهاتفية لأمر خارج عن سيطرتنا، في مثل هذا الموقف استفدت من خبرتي الإذاعية بالحفاظ على هدوئي، وبدأت في تقديم ملخص لمن سنحت له من الضيوف الفرصة للحديث قبل انقطاع الخط، وربطت بين كلامهم وإعدادي لهذه الحلقة، وأيضًا استفدت من إلمامي بالكثير في هذا الملف من خلال قراءاتي أو من خلال المعلومات التي درستها في الدبلومتين اللتين حصلت عليهما حول الدراسات الفلسطينية والدراسات الإسرائيلية، واستمر ارتجالي لمدة 14 دقيقة حرصت خلالها على 3 أمور: تسلسل الأفكار، والحفاظ على الحياد، وأيضًا على استخدام لغة عربية سليمة، واستمر ذلك حتى نهاية الحلقة.
أيضًا هناك حلقة كانت تتناول موضوعًا ما قمت بالإعداد له طوال اليوم، وقبل إذاعة الحلقة بـ5 دقائق وقعت أحداث أخرى تحمل الكثير من الأهمية، فطلبوا منّا في لندن أن تواكب الحلقة هذه الأحداث، وبالتالي كان عليّ أن أرتجل الأسئلة مع ضيوفي، الذين مثلوا أطراف هذا الحدث وخرجت الحلقة بسلام.
ما هي أبرز ذكرياتك مع المحطة العربية؟
أحمل الكثير من الذكريات الجميلة خلال عملي في مكتب القاهرة، فهو لم يكن مجرد مكان للعمل فقط، بل اعتبرته منزلي بالفعل، وأتذكر السادة مديري المكتب الكرام الذين تولوا قيادته، فأنا ممتن لهم كثيرًا، بالطبع الأستاذ خليل فهمي الذي دخلت في عهده إلى مكتب القاهرة، والدكتورة نجلاء العمري، والأستاذ أكرم شعبان، والسيدة صفاء فيصل، والأستاذ أشرف مدبولي، كلهم كانوا داعمين لي وخير سند لي، فلهم كل الشكر والتقدير.
كما أتذكر زملائي الكرام الذين خاضوا معي هذه التجربة الثرية عبر 15 عامًا، كانت الروح السائدة بيننا هي روح الصداقة والأخوة وقلما تجدها في مكان آخر، ولذلك تركت هذه الفترة داخلي تجربة إنسانية ثرية وعميقة، فلهم مني كل الحب والتقدير.
أما على المستوى المهني فكانت تجربة عميقة إذاعيًا كوّنت وشكلت شخصية هشام عبدالملك، والتجارب التي مررت بها كان لها دور في وصولي إلى هذا المستوى الإذاعي، إن يوم عمل في "بي بي سي" يعادل خبرة عميقة.
يبدو أن شغفك كان متقدًا في الأيام الأخيرة من عمل المحطة وهو ما ظهر جليًا في إجرائك لحوار مع د. محمد أشتية رئيس الوزراء الفلسطيني.. ما سر هذا الأمر؟
لقد كنت حريصًا لفترة طويلة منذ تعيين الدكتور محمد أشتية رئيسًا للوزراء في فلسطين على إجراء لقاء معه، لكن مشاغله الكثيرة حالت دون إجراء هذا اللقاء، وقبل توقف البث بأسبوع طرحت الأمر مرة أخرى على مديرة مكتبه لتخبرني بأنه يرحب بإجراء اللقاء، حتى كان هذا هو الحوار الأخير الذي أجراه بشكل حصري لراديو "بي بي سي عربي"، وليكون ختامها مسكًا كما يقولون.
هل كنت ترغب في إيصال رسائل من وراء هذا الحوار الحصري الأخير؟
بالفعل، وددت أن أقدم نصيحة لكل الإذاعيين خاصة الشباب منهم، وهي: "لا تيأسوا وكونوا وراء أهدافكم مهما كانت الصعوبات، واجعلوا سقف طموحكم عاليًا، وحاولوا مع الشخصيات السياسية التي تريدون التسجيل معها مرات ومرات حتى تنجحوا في إجراء اللقاء الذي تريدونه".
هل علاقتك انتهت مع "بي بي سي" بإغلاق المحطة العربية؟
أشعر أنني قدمت كل ما لدي خلال 15 عامًا في راديو "بي بي سي". قررت الاكتفاء بهذه الفترة وأعتقد أنه حان الوقت للبحث عن تجربة إعلامية جديدة تستوعب خبرتي الطويلة.
كيف كان رد فعلك لحظة الإعلان عن إغلاق المحطة العربية في سبتمبر/ أيلول الماضي؟
كان صادمًا لي ولكل زملائي، كان هناك حديث في السابق عن إجراء بعض التغييرات في الراديو، وتوقعنا تقليصًا في ساعات البث على الهواء، لكننا فوجئنا بإغلاق الراديو بشكل نهائي، وما زلت حتى الآن لا أصدق هذه الخطوة خاصة وأنها تمثل القوة الناعمة لبريطانيا، كما أن هناك علاقة حب وود واحترام متبادلة بين راديو "بي بي سي" ومستمعيه على مدى 85 عامًا، ويمكن الشعور بذلك في تعليقات المستمعين في جميع أنحاء العالم العربي.
أود أن أوجه كل التحية والتقدير لمستمعي "بي بي سي" الكرام الذين تفاعلوا معنا ومع برامجنا على مدى هذه الأعوام الطويلة.
بشكل عام.. ما سر شغفك بالعمل الإذاعي؟
كنت محظوظًا أنني نشأت في بيت إذاعي، فوالدي رحمه الله الأستاذ عبدالملك عبدالرحيم كان مذيعًا في إذاعة القاهرة، ثم انتقل إلى إذاعة الرياض في المملكة العربية السعودية وظل يعمل بها لـ33 عامًا، بالإضافة إلى أنه كان شاعرًا وله 3 دواوين، ومن ثم تعلمت من أبي مفردات العمل الإذاعي وكيفية حب العمل واحترامه بكل تفاصيله الدقيقة، لقد كانت له بصمة إذاعية ستظل محفورة بداخلي.
كما كان التحاقي بكلية الإعلام جامعة القاهرة رافدًا آخرًا من روافد بنائي إذاعيًا، والتحقت خلالها بقسم الإذاعة والتليفزيون لأنهل من علم أساتذتي الكرام في الكلية الذين أعتز بهم كثيرًا، ولهم مني كل الحب والتقدير، كما كان حصولي على درجتي الماجستير والدكتوراه في الإعلام استمرارًا لتشكيل شخصيتي الإعلامية.
ما أبرز المحطات التي عملت لصالحها قبل "بي بي سي"؟
التحقت براديو "بي بي سي" قادمًا من الإذاعة المصرية، حيث كانت بداياتي كمذيع في إذاعة الإسكندرية التي تعد رابع إذاعة مصرية يتم إنشاؤها عام 1956، وعملت فيها لمدة عامين ثم التحقت بعدها بإذاعة "صوت العرب"، التي تعد ثالث إذاعة مصرية يتم إنشاؤها عام 1953، وعملت فيها لمدة 10 أعوام، وتعلمت خلال هذه الرحلة الطويلة على يد قيم وقامات إذاعية ما زلت أدين لها بالفضل والتقدير.
كيف التحقت بهيئة الإذاعة البريطانية؟
هناك قصة طريفة لالتحاقي بهيئة الإذاعة البريطانية، فقد أخبرني زميل لي في إذاعة "صوت العرب" أن مكتب "بي بي سي" في القاهرة يريد مذيعين للالتحاق به، وطلب مني السيرة الذاتية الخاصة بي لتقديمها لمدير المكتب، وكان قد التقى بي مصادفة داخل مبنى الإذاعة والتليفزيون وقتها، والتحق هو قبلها بعام بمكتب "بي بي سي" في القاهرة.
لم أكن في المعتاد أحمل السيرة الذاتية الخاصة بي، لكنني قبلها بعدة أيام وضعتها في الحقيبة دون تفسير مني لذلك، ولما طلب مني هذا الطلب قدمتها له، وجدتهم يتواصلون معي في اليوم التالي بأنني سأخضع لاختبار، وهو ما تم بالفعل وأخبروني لاحقًا أنني نجحت وسأكون مذيعًا في راديو" بي بي سي"، كل هذا تم خلال أسبوع واحد فقط، ليتحقق لي هذا الحلم العظيم في أن أكون جزءًا من هذه الهيئة الإذاعية العريقة، ولتستمر رحلتي معها على مدار 15 عامًا.
aXA6IDMuMTQ3LjYyLjUg جزيرة ام اند امز