اكتشف البشر أن الحياة ليست أكلا وشربا واستهلاكا فقط، بل هناك جانب روحي لا بد من تغذيته
ذات مرة كتب "جورج برنارد شو"، المؤلف والأديب الأيرلندي الشهير يقول: "عند العاصفة يلجأ الناس إلى أقرب مرفأ"، وقد أثبتت التجربة التاريخية عند البشر أنه ليس أكثر أمانا أو ضمانا من مرفأ الإيمان، كميناء للمؤمنين، ففيه يجدون حبلا قويا يشدهم إلى السماء، يصعدون إليه بصلواتهم وتضرعاتهم، لا سيما في أوقات الكرب والملمات الجسام.
يوما تلو الآخر كذلك تثبت الحياة أن البشر إخوة في مواجهة الصعاب والمشاق التي لا بد منها، وفي وقت جائحة مثل جائحة كورونا استشعر الكل من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها أنهم أسرة إنسانية واحدة، وأن جذورها في الأرض، وفروعها ممتدة إلى السماء، هناك حيث يأتي المدد والعون من الخالق سبحانه وتعالى.
حل شهر رمضان المعظم، بكل ما يحمله من نفحات روحية وإيمانية، وبملمسه وملمحه، التي تتجاوز عالم الموجودات، حيث غرق الناس في فلسفة الاستهلاك والتكالب على الماديات، حل على البشرية والخليقة تئن وتتمخض من جراء جائحة كورونا، تلك التي طرقت أبواب الخلائق بأيدٍ مضرجة بالموت من غير طلب، ويأمل المرء أن ترحل سريعا حتى ولو من غير استئذان.
اكتشف البشر أن الحياة ليست أكلا وشربا واستهلاكا فقط، بل هناك جانب روحي لا بد من تغذيته بالقدر عينه الذي يغذى به الجسد
وفيما الفيروس الشائه يستلب الأرواح، وينشر الخوف والذعر، فيلتزم الناس دورهم، من غير مقدرة على تحدٍّ أو تصدٍّ لذلك المجهول، يسابق العلماء الزمن في معاملهم من أجل إيجاد الدواء الناجع، القادر على هزيمة هذا الفيروس الشرير.
اكتشف البشر أن الحياة ليس أكلا وشربا واستهلاكا فقط، بل هناك جانب روحي لا بد من تغذيته بالقدر عينه الذي يغذى به الجسد، ومن هنا ارتفعت الأكف الضارعة إلى السماء، لا سيما من قبل العائلة الإبراهيمية، سعيا لاستمطار مراحم الله العلي القدير على أرضنا المتألمة بالمرض، المجروحة في الكبرياء المغشوش الذي سيطر على جل من يعيشون عليها، إلى الدرجة التي اعتقدوا معها أنهم على مقدرة كبرى من التسلط على الكوكب الأزرق وما فيه من حياة.
حسنا جدا.. جاءت دعوة لجنة الأخوة الإنسانية في دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي وزعت حول العالم عبر ثلاث عشرة لغة، لتوجد بين أيدي الإخوة الذين يؤمنون بالله الخالق وبالأخوة الإنسانية، من أجل يوم متفق عليه للصلاة والدعاء لصالح الإنسانية، كي يرفع الله تعالى هذا الشر والمقت عن المسكونة وساكنيها.
لا صراع بين العلم والدين، كما أنه لا مواجهة أو مجابهة بين العقل والنقل، ولهذا جاءت صيغة الدعوة ماهرة إلى أقصى حد ومد؛ إذ أشارت إلى أن عالمنا يواجهه خطر داهم يهدد حياة الملايين من البشر، بسبب الانتشار المتسارع لفيروس كورونا، ولهذا فإنه وفيما يقوم الطب والبحث العلمي بالتصدي لهذا الوباء، فإننا لا ننسى أن نتوجه إلى الله الخالق في هذه الأزمة الكبيرة.
ولعله من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين، فإننا نشير إلى أن لجنة الأخوة الإنسانية قد انبثقت عن الحدث الفريد من نوعه، الذي جرى على أرض الإمارات العربية المتحدة في شهر فبراير/شباط من عام 2019، وبحضور البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، والشيخ الطيب شيخ الجامع الأزهر، والذي بلور "وثيقة الأخوة الإنسانية"، التي صارت دربا ودستورا إنسانيا في حاضرات أيامنا، تثبت مناخات العالم الإنسانية والأيكولوجية أنها جاءت في وقتها وأنها قادرة بالفعل على إفراز توجهات رؤية مستقبلية تغير من شكل العالم.
مبهج للعين وسار للقلب أن يجد المرء في عالمنا المعاصر ذاك المدجج بالأسلحة المادية القاتلة "ركب لم تجثو للبعل"، بعل الحياة الغارقة حتى الأذنين في عالم النشوة، وشعارات الأبيقوريين "فلنأكل ولنشرب فإنا غدا نموت".
تدعو اللجنة كل الناس، في جميع أنحاء العالم، أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالصلاة والصوم والدعاء، كل فرد في مكانه، وعلى حسب دينه أو معتقده أو مذهبه، من أجل أن يرفع الله تعالى هذا الوباء، وأن يغيثنا من هذا الابتلاء، وأن يلهم العلماء لاكتشاف دواء يقضي عليه، وأن ينقذ العالم من التبعات الصحية والاقتصادية والأنانية جراء انتشار هذا الوباء الخطير.
ما أرحب هذه الدعوة التي تجيء في شهر الصوم، شهر العبادات والطاعات، عند العالم الإسلامي، وتواكب زمن ما يعرف "بالوقت الفصحي" في العالم المسيحي، الأمر الذي ينقلنا بكل ثقة من دائرة الأيديولوجيات القومية المتعصبة والشوفينيات القاتلة، ويتجاوز صراع الدوجمائيات العميق، إلى رحابة اللقاء الإنساني، وما أجمله من لقاء بين أخوة يرون أن التحدي الحياتي على الكرة الأرضية ظهر في لحظة بعينها، ووضع الجميع في خانة الخوف من المجهول، فتراص المؤمنون يشدون أزر بعضهم بعضا.
تقترح اللجنة يوم الخميس الرابع عشر من مايو الجاري ليكون يوما إنسانيا وإيمانيا حول العالم، يوما تصوم فيه النفوس قبل البطون صوما صادقا لله عن كل ما عكر صفو الحياة الروحية في العقود الفائتة، وصوما عن الطعام يذكرنا أن على الكوكب حالة من العدالة المختلة في توزيع الموارد، حالة تسبب فيها الإنسان ولا يزال، من خلال منظومة الجشع والطمع والأنانية، تلك التي حطمتها كورونا دفعة واحدة على صخرة مجهولة يكافح الكل لفك شفراتها حتى الساعة.
ليكن الرابع عشر من مايو/أيار الجاري يوما للوحدة الإنسانية، ما بين القيادات الدينية وجموع المؤمنين، فيه يرتفع صوت الخليقة إلى الخالق، معبرين عن طاعاتهم وآمالهم في أن يوقف الله الجائحة، وأن يعيد الأمن والاستقرار والصحة والنماء، ليصبح عالمنا بعد القضاء على الجائحة أكثر إنسانية وأخوة من أي وقت مضى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة