الأزمة الجزائرية.. الدلالات والمآلات

يمكن تصور سيناريوهين للأزمة في الجزائر؛ الأول هو الحل الدستوري، والآخر الحل التوافقي انطلاقا من الشرعية الشعبية.
كان لإعلان الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة ترشحه لولاية خامسة في الانتخابات الرئاسية المقررة في 18 أبريل وقع الصدمة في الجزائر، ما خلق حالة غليان بدأ افتراضيا على مواقع التواصل الاجتماعي ثم انتقل إلى مسيرات ميدانية حاشدة منذ الثاني والعشرين من فبراير/شباط الماضي.
قبل قراءة الأزمة السياسية في الجزائر ينبغي الإشارة إلى أن ما يجري ليس جديداً وإن كان مختلفاً، فالحراك الحالي ليس الغضبة الشعبية الأولى في وجه نظام الحكم؛ حيث كانت أحداث 5 أكتوبر 1988 نقطة تحول تاريخي وربيعا جزائريا أنهى الأحادية الحزبية؛ وأفرز حالة غير مسبوقة من الديمقراطية غير المؤسسة، ما فتأت أن انتكست في 1992 وأنهت انفتاحا ديمقراطياً لم يعمّر طويلاً، عاشت بعده الجزائر حربا أهلية طيلة عشر سنوات خلّفت جروحاً عميقة وشعوراً بالانكسار والمرارة.
ومع اندلاع المظاهرات في الوطن العربي في عام 2011 شهدت البلاد أيضاً احتجاجات على رفع الأسعار، عمدت الحكومة إلى شراء السلم الأهلي بزيادة الدعم المالي. قبل أن تتكرر الاحتجاجات مطلع 2017 وإن كانت بشكل أقل حدة على خلفية موازنة العام الجديد وما تضمنته من إجراءات تقشفية، لكن السلطات نجحت في استيعابها مرة أخرى.
وصولا إلى الهبة الشعبية الأخيرة التي أثبتت فشل خطاب التخويف الذي تبنته الحكومة الجزائرية أمام وعي شبابي كبير عمّ البلد وتغذّى مما رآه في الواقع داخلياً من خلال استشراء الفساد، فكانت مظاهرات الجمعة 22 فبراير التي أسقطت ورقة التخويف من الفوضى، ومن عودة البلاد إلى سنوات الحرب الداخلية وكسرت معها مسلمة الشعب الساكت والمستسلم. فما ملامح ودلالات الأزمة السياسية الجزائرية؟ وما مآلاتها؟
أولا: ملامح الحراك الشعبي الجزائري وخصوصياته
- إن التجربة الجزائرية جاءت بعد تراكم العديد من تجارب الحراكات على امتداد رقعة الدول العربية. وهذا ما سيجعلها تجربة خاصة ومتميزة بسلميتها ووعي الجزائريين فيها بضرورة تغليب العقل على العاطفة من أجل إنشاء نظام سياسي بخصوصية جزائرية يحقق ديمقراطية تشاركية. ولعل التحام كل مكونات الشعب الجزائري وراء ضرورة تغيير السلطة في البلد، قد ساعد الجزائريين على إنجاح مطلبهم الأساسي، وهو إلغاء العهدة الخامسة وتأجيل الانتخابات.
- تغير عقلية شباب الجزائر الراهن، وانخراط أغلب الشعب الجزائري في ثقافة العصر المبنية أساسا على تدفق المعلومات وحرية التعبير، وتغيير قواعد اللعبة التقليدية، منح رؤية واضحة إلى إمكانية نجاح أهداف الحراك الجزائري ولو في حده الأدنى، ويعد إلغاء العهدة الخامسة ورفض تمديد العهدة الرابعة أهم ما حققه هذا الحراك.
- كما أعاد هذا الحراك الجزائريين إلى السياسة بعدما أُخرِجوا منها طوعاً وكرهاً عن طريق إبعاد النخبة المثقفة واحتواء المعارضة السياسية والتضييق حتى على تخصص العلوم السياسية في الجامعات، وبعدما ظن الكثير أن الشعب قد استقال من الحياة السياسية.
- لا ينتسب الحراك إلى أي جهة حزبية، بل بالعكس سبق كل الأحزاب بخطوات كبيرة، ما اضطرها للحاق به، لكنّ غياب التأطير السياسي من شأنه أن يشكّل نقطة ضعف، قد تؤثر في قوة المطالب، وتحول دون الوصول إلى أهداف الملايين التي خرجت للشارع.
- توحيد ووضوح مطالب الحراك واختفاء الألوان السياسية وغياب التيارات الأيديولوجية، وهي معطيات رسمت مشهدا جديدا ومتفردا يؤذن بمطلب رئيسي يعبر من خلاله عن رغبة الشعب الجزائري في بناء مستقبله بأفكاره وقناعاته وتطلعاته، وفق ما تقتضيه مصلحة الشعب، بعيدا عن الأجندات الخارجية.
ثانيا: مطالب الحراك بين عروض السلطة وحلول المعارضة
منذ انطلاق الشرارة الأولى للمسيرات في 22 فبراير الماضي ضد العهدة الخامسة ثم ضد تمديد العهدة الرابعة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لم تستطع السلطة تقديم الحلول اللازمة لاحتواء الوضع فعروضها إلى الآن لم تستطع امتصاص غضب الشارع بعدما قدمت السلطة إزاحة العهدة الخامسة من الطريق، لم تنجح في تمرير تمديد العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة وترجمت في خارطة طريق قادها ثلاث شخصيات؛ الوزير الأول نور الدين بدوي ونائبه رمطان لعمامرة والدبلوماسي الأخضر الإبراهيمي.
وكان منتظراً من هؤلاء السيطرة على المشهد العام في الجزائر، تصدياً للحراك الشعبي الذي أربك الجميع. وراهن محيط بوتفليقة وأطراف أخرى في السلطة على تلك الشخصيات الثلاث لتهدئة الشارع وضمان تنفيذ خريطة الطريق التي وضعت بعد استقالة رئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى، ورافقت تلك التعيينات انتقادات شعبية واسعة، ترجمتها الشعارات واللافتات التي رُفعت خلال المسيرات، كما اعتبرت المعارضة أن "خطوة الرئيس مجرد ذرّ للرماد في العيون ومحاولة للالتفاف على الحراك الشعبي، لأنه لا يمكن إحداث التغيير بوجوه الأزمة".
بموازاة ذلك، اقترحت أحزاب وشخصيات وطنية من المعارضة الجزائرية في لقاء تشاوري، هو السادس لها، خارطة طريق بديلة تتضمن مهلة مدتها ستة أشهر، وحلا سياسيا في إطار الشرعية الشعبية، وأكد بيان عقب الاجتماع الذي جرى بمقر حزب جبهة العدالة والتنمية ضرورة إقرار مرحلة انتقالية قصيرة لا تتجاوز ستة أشهر بعد انتهاء العهدة الرئاسية الحالية، تُـنقل خلالها صلاحيات الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة إلى هيئة رئاسية، استنادا إلى الشرعية الشعبية المنصوص عليها في المادة السابعة من الدستور. تعمل على تشكيل حكومة لتصريف الأعمال، وإنشاء هيئة مستقلة لمراقبة الانتخابات، إضافة إلى تعديل قانون الانتخابات. ودعت المعارضة مؤسسة الجيش إلى الاستجابة لمطالب الشعب والمساعدة على تحقيقها، في إطار احترام الشرعية الشعبية. واتفق المجتمعون على الاستمرار في المشاورات حول القضايا والخطوات المكملة لها، بما يضمن تحقيق مطالب الشعب. وجاءت ردود فعل الحراك رافضة لأنها لم تخرج من صلب مطالبه.
وأخيرا ومع اقتراب موعد انتهاء العهدة الرئاسية رسميا في 28 أبريل واستمرار المسيرات وصمت السلطة في ردها للأزمة الجزائرية برزت مقاربة حل المؤسسة العسكرية في ظل الانسداد وعدم التوصل إلى آلية لإنجاح الحوار السياسي. تجلت في طلب الفريق أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش في 26 مارس الجاري نص المادة 102 من الدستور الجزائري، والتي تقضي بحجب الثقة عن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، واعتبر أن هذه المادة هي الحل الأنسب للأزمة التي تمر بها البلاد، في إطار دستوري يكون محل توافق بين الجميع، وتولي رئيس مجلس الأمة عبدالقادر بن صالح السلطة لمرحلة انتقالية لمدة 45 يوما حتى إجراء انتخابات جديدة. وجاءت الردود متباينة لتكشف الأيام المقبلة عن مدى قبول الشارع الجزائري لهذه المبادرة.
ثالثا: مآلات الأزمة السياسية الجزائرية
من خلال استقراء أهم مطالب الشعب الجزائري وأهم ردود فعل السلطة والمعارضة يمكن تصور سيناريوهين أساسيين للأزمة الجزائرية مستقبلا.
السيناريو الأول: الحل الدستوري
وهو السيناريو الذي اتضحت معالمه بعد مرور أكثر من شهر، قامت فيه السلطة بتنظيم نفسها وملاحظة وقراءة تطورات الحراك ومحاولة إضعافه واستنزافه، وجاء طلب المؤسسة العسكرية بضرورة تفعيل المادة 102 التي تنص على أنه إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا، وبعد أن يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع.
وتشير المادة في بقية فقراتها إلى أن رئيس مجلس الأمة يتولى رئاسة الدولة بالنيابة لمدة لا تزيد على خمسة وأربعين يوما بعد إعلان البرلمان ثبوت المانع، أما في حالة استمرار مرض رئيس الدولة، فذلك يعني استقالته ثم شغور منصبه الذي يتولاه رئيس مجلس الأمة من جديد لمدة لا تزيد على تسعين يوما، تنظم خلالها انتخابات رئاسية لانتخاب رئيس جديد.
ويدل هذا المقترح على أن السلطة تريد الاستجابة لمطالب الشارع وفق منطقها بشكل يضمن لها تسيير مرحلة انتقالية، يتم بمقتضاها تغيير وجوه وتنحي بوتفليقة والمحيطين به، وتسلم السلطة لرئيس مجلس الأمة الذي سينظم انتخابات رئاسية في ظرف 90 يوما.
وهذا السيناريو يُبنى انطلاقا من وجود توافق داخل أروقة النظام في ظل استبعاد دور المؤسسة السياسية التي يشرف عليها حاشية الرئيس. في المقابل بداية بروز انقسامات بين أحزاب المعارضة وتجاذبات داخل الحراك. ومن بين مضامينه المحافظة على مؤسسات الدولة، وفرض الحلول السياسية، والسيطرة على اللعبة السياسية، وإعادة تجديد النظام داخليا.
وما يمكن أيضا توقعه في هذا السيناريو أن يقدم الرئيس بوتفليقة استقالته قبل نهاية عهدته حتى يضمن له خروجا بعيدا عن مانع العجز، وأن يتم تشكيل حكومة جديدة قبل تقديم الاستقالة حتى لا تقع في فراغ مؤسساتي، إذ تشير المادة 104 من الدستور هي الأخرى، إلى بعض الجوانب المتعلقة بحالة المانع، حيث تؤكد استمرار الحكومة القائمة إبان حصول المانع لرئيس الجمهورية أو وفاته أو استقالته بحيث "لا يمكن أن تقال أو تعدل" وذلك حتى يشرع رئيس الجمهورية الجديد في ممارسة مهامه.
السيناريو الثاني: الحل التوافقي انطلاقا من الشرعية الشعبية
ينطلق هذا السيناريو من مواصلة الضغط بالمسيرات وأساليب سلمية أخرى، لكن أيضا الانتقال إلى عملية التنظيم في كل المستويات والمجالات بعقلانية وبعيدا عن الغوغائية للوصول إلى نظام سياسي جديد نابع من الحراك ذاته بعد عقد وطني تشترك فيه تيارات وطنية تتزعمها شخصيات وطنية لتسيير المرحلة الانتقالية، وتضع دستورا توافقيا، حتى الوصول إلى انتخابات نزيهة وشفافة. لكن يشترط لنجاح هذه العملية حماية ومرافقة المؤسسة العسكرية والأمنية للحراك، مع المحافظة على الدولة لا على النظام المتهالك.
والعمل على بناء جسر تواصل مع السلطة للوصول إلى تغيير يكون الحراك بوصلته للخروج من حالة الفراغ الذي تعيشه مختلف مؤسسات الدولة لضمان الانتقال السلس الذي يبعد سيناريوهات غير مرغوب فيها.
إذن الحل اليوم للأزمة السياسية الجزائرية يتطلب البدء في عملية الانتقال السياسي مع ما بقي من مؤسسات الدولة لأن المدة غير كافية لبناء مؤسسات جديدة تكون قاطرة الانتقال الديمقراطي ولن يتأتى ذلك إلا إذا حدثت توافقات بين السلطة والشعب من خلال تبني حل سياسي توافقي انطلاقا من الدستور وإرادة الشعب بعيدا عن فرض الحلول المنفردة.
** الدكتورة دلال بحري أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة باتنة