"قَسَما".. قصة السلام الوطني الجزائري المدون بـ"دم كاتبه"
"قسما بالنازلات الماحقات.. والدماء الزاكيات الطاهرات".. هذا هو مطلع النشيد الوطني للجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد.
السلام الوطني الجزائري "دُوِّن بدم كاتبه"، ولا تزال الأبدان تقشعر والدموع تنهمر عند سماعه، حسب ما ييؤكده الجزائريون، رغم مرور 59 عاماً على نيل الجزائر استقلالها عن الاحتلال الفرنسي، الذي تحل ذكراه، اليوم الإثنين.
- حكاية جزائرية.. العربي بن مهيدي "قاهر جنرالات فرنسا"
- حكايات جزائرية.. العربي التْبَسّي "الشهيد الذي لا قبر له"
5 يوليو/تموز 1962، لم يكن يوماً للنصر واستعادة الأرض بالقوة من أعتى قوة استعمارية بالقرن العشرين فقط، بل كان بداية لمعارك وثورة لـ"تثبيت" ذلك الاستقلال.
وراء كل شهيد يولد ثائر
لم يكن نيل الجزائريين لحريتهم واستقلال أرض بلادهم "إلا على جثث" مليون ونصف مليون شهيد، استقلال عقب ملحمة تاريخية بطعم الثمن الباهظ دفعه شعب هذا البلد العربي بعد 132 سنة كاملة من الاحتلال و7 أعوام من الثورة المسلحة التي أجبرت الاحتلال الفرنسي على الرضوخ لـ"قوة بدائية"، رفضت رغم طول عمر الاحتلال "الأمر الواقع" بأن تكون "الجزائر فرنسية"، فكان لهم أن عادت إلى أصلها "عربية مسلمة".
لم تتمكن سلطات الاحتلال من وأد ثورة الجزائريين المسلحة حتى عندما جلبت حلف شمال الأطلسي، وجدوا شعباً عنيدا متحدياً كما تؤكده الدراسات والشهادات التاريخية، لم يمنعهم أو يقهرهم كل أساليب القتل والتعذيب والمجازر الجماعية الهمجية من تحرير بلادهم، ولسان حالهم يقول: "وراء كل شهيد يولد ثائر".
فرحة الجزائريين في 5 يوليو/تموز 1962 بنيل بلادهم استقلالها بعد ثورة مسلحة ومفاوضات شاقة عرفت بـ"اتفاقيات إيفيان" واستفتاء لتقرير المصير، كانت "فرحة المنتصر القوي" رغم كل ما تكبده هذا الشعب من ويلات لا زالت آثارها ماثلة في نفوس من عاشوا تلك الفترة، وحتى في جدران كثير من المعالم التاريخية التي "قررت أن تبقى شاهدة على قصة كفاح شعب وهمجية احتلال".
الثمن الباهظ
كانت أيضا "فرحة المقهور"، كيف لا، والاحتلال الفرنسي ترك ورائه سجلا قاتم السواد من التنكيل والتعذيب والتقتيل والتهجير، وكتب معه الجزائريون سجلا مشرفاً حافلا بالبطولات التي استشهد أبطالها وبقيت حية.
دفع الجزائريون من أجل نيل حريتهم عن الاحتلال الفرنسي ثمناً أقل ما يقال عنه إنه باهظا، أكثر من مليون ونصف المليون شهيد استشهدوا في ميادين الشرف، ارتوت بدمائهم أرض الجزائر.
أكثر من نصف مليون يتيم وعشرات الآلاف من المعطوبين، أكثر من 8 آلاف قرية دُمرت عن بكرة أبيها من قبل جيش الاحتلال الفرنسي، حتى الأشجار لم تسلم من همجية الاحتلال الذي أحرق آلاف الهكتارات من الغابات والأشجار النادرة والمثمرة.
8 ملايين لغم زرعها جيش الاحتلال الفرنسي على طول الحدود مع تونس والمغرب، لوأد الثورة التحريرية الجزائرية وتركها "انتقاماً" من هزيمة ساحقة كما تذكر الشهادات التاريخية.
ويمتد الثمن الباهض لاستقلال الجزائر إلى 3 ملايين تم تهجيرهم من قراهم ومنازلهم ونقلهم إلى المحتشدات التي كانت تمارس كل أنواع التعذيب التي لم تشهد لها البشرية مثيلا، وكذا أكثر من 300 ألف لاجئ.
نشيد كُتب "بالــدم"
ومن عجائب القدر أن تكون قصة النشيد الوطني الجزائري أو السلام الوطني "قَسَماً" الذي لحنه الملحن المصري الراحل محمد فوزي، بمثل قصة كفاح الجزائريين وثورتهم، كُتب معه للجزائر أن "يُدوَّن نشيدها الوطني بدم كاتبه"، كما دوّن الجزائريون بطولاتهم وتضحياتهم في سجلات من ذهب.
هي قصة حقيقية، لا يُعرف إن كان بطلها الحقيقي الشاعر والمناضل الجزائري الراحل مفدي زكريا المشهور بلقب "شاعر الثورة"، أو ذلك الشعب الذي "عقد العزم بأن تحيا بلاده".
ففي أبريل/نيسان عام 1955، أَلَّف مفدي زكريا كلمات النشيد الوطني وهو في سجن "بربروس" في العاصمة الجزائرية بطلب من "أصدقائه في النضال ضد المستعمر الفرنسي" وهم رباح لخضر وعبان رمضان ويوسف بن خدة، كان في ذلك الوقت نشيدا للثورة الجزائرية.
وتؤكد شهادات مفدي زكريا وبعض المجاهدين (قدماء المحاربين) الجزائريين، أن مفدي زكريا اهتدى إلى فكرة غريبة في كتابة النشيد الوطني، كونه لا يملك قلماً ولا أوراقاً للكتابة في زنزانته، فقرر أن يُدونه "بدمه" على الحائط استخرجه من ذراعه الأيسر ليكتب نشيد بلاده بيده اليمنى، ومن هنا "وُلد نشيد الثورة وشهدائها" بـ5 مقاطع الذي يبدأ بـ "قسما" وينتهي بـ "فاشهدوا".
وفي عام 1957، تمت تأدية النشيد الوطني الجزائري لأول مرة في تونس باستوديوهات الإذاعة والتلفزيون التونسي، لكن التلحين لم يُعجب أصحاب القضية الجزائرية، فأوكلت مهمة تلحينه إلى ملحن النشيد الوطني التونسي، محمد تريكي، الذي أدته مجموعة صوتية جزائرية في تونس.
لكن ممثلي جبهة التحرير الوطني في تونس رفضوا اللحن، وتقرر إعادة المحاولة مع الملحن المصري، محمد فوزي، بعد أن تم إيصال الكلمات إليه بشكل سري، ليتم إقرار تلحينه بعد أن أرسله للمحاربين الجزائريين.
أما المقطع "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب"، فقد أثار غضب فرنسا، وطالبت بحذفه في المفاوضات التي دارت بين قيادات الحكومة الجزائرية المؤقتة وفرنسا، لكن الحكومة الجزائرية رفضت ذلك.
وفي ثمانينيات القرن الماضي تم حذف المقطع من قبل الرئيس الأسبق الراحل الشاذلي بن جديد، قبل أن يقرر الرئيس الجزائري الأسبق اليامين زروال إعادته عام 1995، ولا يزال يتردد إلى يومنا هذا.
النشيد الوطني الجزائري
قـــسما بالنازلات الـماحقات والـدماء الـزاكيات الطـــاهرات
والبــنود اللامعات الـخافقات في الـجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثــرنـا فحــياة أو مـمات وعقدنا العزم أن تـحيا الجـزائر
فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا
نحن جند في سبيل الـحق ثرنا وإلى استقلالنا بالـحرب قـــمنا
لـم يكن يصغى لنا لـما نطــقنا فاتــخذنا رنة البـارود وزنـــــا
وعزفنا نغمة الرشاش لــــحنا وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كــما يطوى الكـــتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الـحــساب فاستعدي وخذي منــا الجواب
إن في ثــورتنا فصل الـخطاب وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا
نحن من أبطالنا ندفع جنــــــدا وعلى أشـلائنا نصنع مجــــدا
وعلى أرواحنا نصعد خـــــلدا وعلى هامــاتنا نرفع بنــــــدا
جبهة التـحرير أعطيناك عـهدا وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا
صرخة الأوطان من ساح الفدا اسـمعوها واستجــيبوا للنــــدا
واكـــتبوها بـــدماء الــشهــداء واقرأوهــا لبني الـجـيل غــــدا
قد مددنا لـك يا مـــجد يــــدا وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر
فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا
aXA6IDEzLjU5LjU0LjE4OCA=
جزيرة ام اند امز