الروائي الجزائري بومدين بلكبير: أكتب لأنتصر للإنسان.. والرواية الجزائرية بخير
في مقابلة خاصة مع "العين الإخبارية" تحدث الروائي والكاتب الجزائري بومدين بلكبير عن روايته "زنقة الطليان" التي دخلت للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وعن نظرته للواقع الثقافي والروائي في بلاده بأسلوب طغت عليه الصراحة.
وضمت القائمة 16 رواية صدرت خلال الفترة بين أول يوليو/تموز 2020 وحتى آخر يونيو/حزيران 2021، وجرى اختيارها من بين 122 رواية تقدمت للجائزة.
وتشتمل القائمة الطويلة للجائزة على كتّاب من 9 بلدان، تتراوح أعمارهم بين 30 و65 عاماً، وتعالج الروايات قضايا متنوعة، من صراع الفنانين من أجل البقاء على قيد الحياة، وهم يواجهون الحروب، إلى علاقة الشرق بالغرب، وقضايا الحرية، والأمومة ومفاهيم الجندر.
- الجزائرية سارة النمس لـ"العين الإخبارية": "جيم" رواية مجنونة وصادمة تحوي جرأة كبيرة
- الجزائري عبد اللطيف ولد عبد الله لـ"العين الإخبارية": تأثرت بنجيب محفوظ والبوكر تعترف بجودة الرواية لا الأسماء
حدثنا في البداية عن روايتك "زنقة الطليان"؟
رواية "زنقة الطليان" هي بمثابة حديث عميق عن حياة المهمشين والبسطاء، الذين اخترت أن أجمع بينهم في زنقة الطليان، وهي حي شعبي من أحياء المدينة العتيقة المتواجدة في قلب مدينة عنابة، وقد أعدت تشكيل هذا المكان فنيّاً بهدف التعبير عن ملامح المدينة العتيقة "بلاص دارم".
حاولت التعبير عن ماضي الشخصيات المؤلم، وعن أحلامها المؤجلة والحديث عن الصراع بين واقع مزيف ومتآكل، ومستقبل غامض، تسيّجه أحلام وآمال مؤجلة، تتقاسمها ذوات متشظية، تعيش تشققات نفسية وروحيّة.
روايتك دخلت القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية، كيف تنظر لهذه المرحلة من مشوارك؟ وماذا يمكنها أن تضيف لك؟
حالما وصلني خبر دخول رواية "زنقة الطليان" للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، قلت في قرارة نفسي: "على الأقل خبر مفرح وسط العتمة التي أدخلنا فيها فيروس كوفيد 19"، إذ وبعد انتشار نتائج لجنة تحكيم الجائزة، بصراحة أسعدني أكثر تفاعل الأصدقاء والساحة الثقافية مع الخبر، وأيضا حجم المحبة التي غمروني بها.
ممتن جدا لكرمهم ومقاسمتهم الفرحة، ومع ذلك ما زالت الطريق طويلة أمام الرواية، خصوصا أن هناك عدة أعمال أخرى مشرفة دخلت القائمة وذات قيمة فنية وأدبية، أهنئ بدوري هؤلاء الكتاب وأتمنى لهم التوفيق أيضا، كما أتمنى أن يكون نَفَس رواية "زنقة الطليان" طويلا، كي تستمر في التنافس للمراحل القادمة من عمر الجائزة.
طبعا الجوائز الأدبية مع التصحر الثقافي وضعف المقروئية في المنطقة العربية، أضحت تلعب الدور الأهم خصوصا في مجال التعريف بالأعمال الأدبية الجديدة والترويج لها على نطاق أوسع، ومنحها فرصاً جديدة لم تكن متاحة من قبل، جراء هشاشة الإعلام الثقافي وغيابه في أغلب الأحيان، وأزمات الكتاب المتلاحقة بالمنطقة، للأسف.
في اعتقادك ما المواصفات التي توفرت بهذه الرواية حتى دخلت القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية؟
سؤال مهم جدا، وعلى قدر ما تبدو الإجابة عنه سهلة وبسيطة، للأسف، فأنا لا أمتلكها. فهو يعود بالأساس إلى معايير لجنة التحكيم، وهذا الأمر يبدو لي أن الخوض فيه أكثر تعقيدا.
ومع ذلك ما يهم في كل ذلك أن مهمة الروائي أن يكتب جيدا (وفقط)، فهناك "أطراف أخرى مستقلة عنه تماما تقوم بمهمة التحكيم والتقييم والاختيار"، "المعايير متغيرة وفعل الكتابة ثابت".
أعتقد أن مجرد التفكير في الأمر بمثابة ورطة، غير محمودة العواقب، قد تجر الكاتب مع مضي الوقت (عن وعي أو غير وعي) للكتابة للجوائز، وهي بمثابة مرض مزمن أصاب شريحة واسعة من الزملاء، ما جعل أعمالهم السردية اللاحقة تأتي باهتة وبلا أي أثر حقيقي لفعل الكتابة.
ما الذي يجعلك تكتب رواية بأكملها عن حي شعبي؟ وماذا يمثل لك هذا الحي؟
طبعا هناك مشروع سردي أشتغل عليه، الكتابة لدي ليست مجرد تأليف كتب متلاحقة، بقدر ما هي مشروع مكتمل، وكل عمل جديد يدخل ضمن غايات وأهداف هذا المشروع السردي.
ففي هذا المشروع أكتب عن كل ما يهم الإنسان في المنطقة، عن تلك الجوانب المتوارية أو المغفلة أو الصغيرة التي أهملها الآخرون أو لم ينتبهوا لها في زحمة الحياة ومتطلبات العصر المتسارعة.
ركزت على شخصيات قصصها تعتبر "طابويات" في المجتمع الجزائري مثل شخصية دلال، وكأنك تحدثت بقلبها ولسانها، لماذا؟ هل هو تعاطف مع شخصها؟ أم مع حالتها؟ وما هي الرسالة التي أردت إيصالها بتركيزك على تلك الشخصية؟
طبعا، أنا أعيش في هذا الفضاء الكبير، أتعامل مع الواقع اليومي للإنسان، بكل الخيبات المكررة والهشاشات التي أضحت ملازمة لحياتنا.
أكتب عن كل ما هو عادي ومعقد وكثيف لكي أفهم خلفيات السلوكات والنفسيات المحركة والدافعة لهذا المجتمع في ظل الظروف المحيطة والمستجدة بالمنطقة والعالم ككل.
أكتب لأنتصر للإنسان أولا وقبل كل شيء، فأنا وسط هذا الخراب واليأس (الحروب، الصراعات، الوباء) أكتب لأبحث عن إنسانيتي.
وتعد دلال سيعدي الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية، وهي التي تعيش في شقة في بناية متهالكة، حالها كحال البنايات المتواجدة في المدينة العتيقة، شقة بائسة في حي عتيق، بناياته مهددة بالسقوط، أو بالإزالة النهائية، وترحيل السكان إلى بيوت وسكنات جديدة.
كما يمثل جلال (الصحفي) المثقف الرافض للوضع، وهو الذي يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن زنقة الطليان خاصة والمدينة العتيقة عامة ضد كل محاولات تغيير ملامحها أو هدمها نهائيّا، يدافع عن هوية المدينة التي لا تمثل جغرافيا المكان فحسب، بل تحيل على الهوية التاريخية لمدينة عنابة ككل، هذا الموقف الذي يكلف جلال السجن ثم الموت بسبب الإضراب عن الطعام.
روايتك حملت جرعات "جرأة عالية"، وهل ترمز تلك الزنقة لـ"الزنقة الأكبر"؟
الكتابة (في اعتقادي) أولا وقبل كل شيء هي فعل حرية بالأساس، غياب مناخ الحرية يجعل من النصوص تخرج مشوهة أو تولد ميتة بالأساس، رقابة المجتمع، أو السياسي، أو الرقابة الذاتية (رقابة الكاتب نفسه) تقتل الإبداع وتسمم الحياة الثقافية.
لا أستطيع أن أجيبك أو أجزم لك بمدى وجود تقاطعات بين الزنقتين (الأصغر والأكبر)، كل قارئ بإمكانه بعد قراءة الرواية (طبعا) أن يقوم بالتأويل الخاص به.
حالما فرغت من كتابة الرواية انتهى دوري تماما، الرواية الآن متاحة أمام القراء في سوق الكتاب، ولا وصاية لي عليها، فالقارئ ليس قاصرا أو عاجزا، أو بحاجة لأن يرشده الروائي إلى بعض مفاتيح العمل السردي الذي بين يديه.
هل نجد بومدين بلكبير الإنسان والشخص بين شخصيات الرواية، وهل عشت حياة المطاردة؟
حينما أنْخرطُ في كتابة عمل سردي جديد، أحاول قدر الإمكان أن أنفصل أو أعزل نفسي تماما، أبذل قصارى جهدي كي لا أقحم ذاتي وتفاصيل حياتي (التي قد لا تهم أحدا غيري)، وإن فعلت، فسأضيف لغلاف الرواية (رواية سيرية)، أو أكتب في جنس آخر تماما (أدب اليوميات)، أو (السيرة الذاتية)، وغيرها، كما فعلت في كتابي الذي سيصدر بعد أسابيع عن منشورات ضفاف ببيروت ومنشورات الاختلاف بالجزائر، بعنوان: "عدو غير مرئي - يوميات روائي في الحجر".
ومع كل ذلك يبدو الأمر شبه مستحيل، فالكاتب مهما حاول التملص والابتعاد من التورط مع شخوصه أثناء الكتابة، فهو متواجد في النص بطريقة أو بأخرى. ليست مطاردة بما تحمله الكلمة من معنى حرفي، بقدر ما يمكن حصر الأمر في هاجس التغيير الذي كان يُحرضني على فعل الكتابة، لكن في مرحلة لاحقة أدركت كم كنت مخطئا، لأنني لا أستطيع تغيير العالم وسط هذا الخراب الذي يحاصرنا من كل الجهات.
أصبحت فقط أحاول أن أكتب كفعل لمقاومة العدم، فالكتابة بالنسبة لي أداة بقاء واستمرار، وحالما أصل إلى النقطة التي أُدرك فيها لا جدوى الكتابة، فهذا يعني أن هذا العالم الأعمى والأصم قد هزمني.
صدر لك قبل ذلك أعمال روائية "زوج بغال" و"خرافة الرجل القوي"، حدثنا عنهما
تطرقتُ في رواية "زوج بغال"، للأسوار والجدران الوهمية بين شعبين جارين (الجزائر والمغرب)، تجمعهما ثقافة واحدة، وتاريخ مشترك، ودين واحد، ولغة واحدة، فالأشياء التي تجمع بين البلدين أكثر من تلك التي تفرقهما.
أعرف أن الكتابة في هكذا مواضيع بمثابة المشي في حقل مليء بالألغام، لكن يجب المغامرة وخصوصًا أن السرد الروائي الجزائري لم يتطرق لهذا الموضوع من قبل، لأنه يعتبر من التابوهات السياسية التي يخشاها الجميع.
كما أنني أعتقد أن الموقف يجب أن يسجل في وقته، أي في اللحظة التاريخية المناسبة، لا بأثر رجعي.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أسباب وخلفيات من وراء كتابة رواية "زوج بغال"، والتطرق لهذا الموضوع الشائك سردياً وسياسياً، فهذا يدخل ضمن مشروعي الروائي الذي أشتغل عليه، وقد بدأته برواية "خرافة الرجل القوي".
فالرواية عندي ليست ترفًا أو أداة لتمضية الوقت، بقدر ما هي حفر في عمق الموضوعات الإنسانية الحساسة التي تقض مضاجعنا، كما أن الكتابة بالنسبة لي ليست تمظهرات تقنية تبقى أسيرة الشكل بقدر ما هي تمثلات تصبو نحو المعنى والجوهر. .
كيف ترى أهمية الرواية في المجتمع اليوم؟ ومن جمهورك المستهدف في أعمالك الروائية؟
تساهم الرواية بدرجة أكبر من غيرها، نظرًا إلى حساسيتها وقدرتها على تناول مواضيع شتّى واستخدام أدوات وخطابات متنوّعة، ما أعطاها قدرة مائزة ومنحها كفاءة وفاعلية ومرونة يصعب أن نجدها متاحة لدى جنس أدبي آخر، هذا بالإضافة إلى ما تعرفه من قبول وانتشار واسع بين مختلف فئات المجتمع دون استثناء.
من غير الممكن نكران مدى مساهمة الرواية في رفع مستوى الوعي بالقضايا الجوهرية، كما من غير المسلم به القول إنها محض ترف، أو مجرد أداة لتجزية الوقت، أو الافتراض -ببلاهة- أنه لا توجد علاقة بين قراءة الرواية وبين إدراكنا لذواتنا وللعالم من حولنا.
أثناء فترة الكتابة لا أفكر بمنطق التسويق، ليست مهمتي تقسيم السوق إلى قطاعات، ثم استهداف قطاع بعينه من القراء، ما يهمني قبل وأثناء وبعد فترة الكتابة هو احترام القارئ وعدم استغفاله أو الاستهانة بذكائه.
كيف تنظر إلى واقع الرواية في الجزائر؟ وما قراءتك للمشهد الأدبي والثقافي بالجزائر؟
الرواية الجزائرية بخير، وأسماء مهمة تتصدر المشهد العربي والعالمي، على الرغم من تلك الصورة المشرفة يلحظ المتابع للمشهد الثقافي الجزائري بعض العلل والأمراض التي تنخر جسد الرواية في الجزائر؛ بسبب التهافت على النشر بشكل لافت، وضعف مستوى الحراك والنقاش الثقافي، وتقاعس النقد، وغيرها من الأمراض الثقافية الأخرى. .
بمن تأثرت من الروائيين الجزائريين أو العرب أو العالميين، ومن تعتبره مثلك الأعلى؟
تأثرتُ بالعشرات والمساحة لا تتسع لذكرهم جميعًا، وهنا يجب أن أقف عند كلمة التأثر؛ فالتأثر بكاتب ما لا تعني التبعية وتقليد الأسلوب، إنما تعني الاعتراف بقوة نصوصهم وعمقها وابتكاريتها، وقوة تأثير تلك النصوص عليك كقارئ، أو ككاتب؛ من خلال الشك وطرح الأسئلة المورّطة، فأنت دومًا غير راض وغير مقتنع أثناء عملية الكتابة، وهذا ما يدفعك باستمرار للتجديد والتغيير ومحاولة طرح الموضوعات والقضايا غير المطروقة وتناول التيمات غير النمطية في الكتابة.
وفي هذا الصدد يمكن الحديث، على سبيل المثال لا الحصر، عن: ستيفان زفايغ، كارل تشابك، بوهوميل هرابال، خوان خوسيه مياس، جون دومينيك بويي، سكوت فيتزجيرالد، أفونسو كروش، بيدرو ميرال، بول أوستر، تشارلز بوكوفسكي، محمد شكري، الطاهر وطار، رشيد بوجدرة، ياسمينة خضرا، محمد زفزاف، عبد الحميد بن هدوقة، محمد ديب، جورج طرابيشي، وغيرهم الكثير.
هل نالت تجربتك في كتابة الروايات حظها من المتابعة النقدية؟
بقيت أعمالي السردية حبيسة الرسائل والمذكرات الجامعية، والجامعة اليوم لم تنفتح بعد على المجتمع بما يكفي، النقد في منطقتنا عموما في سبات عميق، أو يقتصر على الشلة الضيقة والأصدقاء؛ فيما يعرف بزبائنية مقيتة سممت الحياة الثقافية.
من جهة أخرى لا يمكنني أن أغفل أو أنكر جهود الصحفيين وأهمية المتابعة الاعلامية (محلياً وعربياً، وأحياناً أجنبياً) لتجربتي السردية، ودورها في تعريف جمهور القراء بمشروعي السردي (على نطاق أخر) كبديل شبه وحيد جراء هشاشة وضعف وغياب النقد.