شيخوخة القادة.. «سرطان» في قصور الحكم
كانت الشيخوخة عاملا حاسما في ضغوط الديمقراطيين على الرئيس الأمريكي جو بايدن (81 عاما) للانسحاب من سباق البيت الأبيض بعد أدائه الكارثي في مناظرته مع سلفه ومنافسه الجمهوري دونالد ترامب في يونيو/حزيران الماضي.
وبعيدا عن الانتخابات فإن التاريخ يشير دائما إلى أن القادة الكبار في السن الذين تظهر عليهم علامات واضحة للخرف يتلقون معاملة مختلفة من قبل نظرائهم الأجانب، وفقا لما ذكرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في تقرير لها.
وقالت المجلة إن مشكلة الشيخوخة لا تنطبق على بايدن فقط إنما تنسحب أيضا على ترامب (78 عاما) الذي أظهر لحظات من الارتباك، والاستطرادات والجهل الصارخ، والتحريفات الفظيعة، وذلك على الرغم من النشاط الواضح الذي أظهره بعد محاولة اغتياله يوم 13 يوليو/تموز الجاري.
وكشفت دراسة نشرت العام الماضي، عن استخدام المراقبين الأجانب للمؤشرات الجسدية والعاطفية والمعرفية كأدلة حيوية لتقييم القادة المسنين.
وأوضحت الدراسة أن القادة الذين يظهرون بشكل متكرر علامات تدل على التدهور المرتبط بالعمر، يعاملون بشكل مختلف مقارنة مع القادة الأصغر سنا، وأيضا مقارنة بالقادة المسنين الذين تظهر عليهم علامات أقل من التدهور.
وعلى سبيل المثال قد تدفع شيخوخة زعيم ما خصومه إلى عقد صفقة أكثر صعوبة أو تبني سياسات خارجية أكثر عدوانية، مع توقع استجابة أضعف.
وقد يشكك الحلفاء والشركاء في الوعود التي يقدمها الزعيم المسن وقد يتجاهلونه من خلال العمل مع مسؤولين آخرين، وربما يؤجلون الدبلوماسية الموضوعية تماما.
لكن صناع السياسات قد يقومون أيضًا بتحديث تقييماتهم للقادة من خلال الاتصال المستمر، مما يمنح القادة المسنين فرصة لاستعادة سمعتهم من حيث الكفاءة والأهمية.
لكن عمر القائد وحده ليس معيارا فيمكن أن تكون الشيخوخة مصدرًا للحكمة أو محركًا للتدهور العقلي، ويمكن معرفة الفرق كما في الحياة اليومية من خلال ملاحظة علامات مثل الارتباك، أو الضعف الجسدي، أو فقدان التركيز والتي تتوافق مع الصور النمطية السائدة حول التدهور المرتبط بالعمر.
وبشكل روتيني، قام المسؤولون الأمريكيون بفحص نظرائهم الأجانب المسنين بحثًا عن علامات الخرف، واستندوا في أحكامهم إلى العديد من المؤشرات نفسها التي ركز عليها المراقبون بعد أداء بايدن في المناظرة مع ترامب، مثل الصوت الخشن، والكلام المتقطع، والحركات الضعيفة، والإجابات المتعرجة، والنسيان الواضح.
وبعد اجتماعه مع السفير الأمريكي تشيستر بولز في عام 1964، وصف تقرير لوكالة المخابرات المركزية رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو الذي كان يبلغ من العمر 74 عاما بأنه "ضعيف" ويتحدث "ببطء مؤلم" وتوفي الرجل بأزمة قلبية بعد ذلك أسابيع.
وطوال السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حاول صناع السياسة الأمريكيون تحديد ما إذا كانت شيخوخة الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف تؤثر على كفاءته وسلطته أم لا.
وبعد اجتماع عام 1977، أشار وزير الخارجية سايروس فانس إلى أن بريجينيف (71 عاما) بدا "في حالة ذهول"، و"بعيدًا عن التواصل مع محيطه".
في المقابل، حرصت محطة وكالة المخابرات المركزية في بون على تحذير واشنطن عام 1959 من أن سلوك مستشار ألمانيا الغربية كونراد أديناور (83 عامًا) "لا ينبغي أن يُعزى إلى الخرف"، لأن الرجل ظهر "ثابتا جسديًا ومتنبهًا عقليًا".
وخلال فترة كبيرة من الحرب الباردة، عقد رئيس وزراء الصين المسن تشو إن لاي اجتماعات عديدة مع شركاء أجانب تحدثوا عن نشاطه وحدته الفكرية، مثل مستشار الأمن القومي هنري كيسنغر الذي كتب في مذكرة بعد لقاء الرجل عام 1971 أنه "يصنف مع شارل ديغول باعتباره رجل الدولة الأجنبي الأكثر إثارة للإعجاب الذي قابلته".
وتكشف سجلات أرشيفية رُفعت عنها السرية نظرة أعمق للتقييمات الأمريكية للقادة المسنين من خلال تقييم كل من سينغمان ري من كوريا الجنوبية وماو تسي تونغ من الصين وهو ما يسلط الضوء على أهمية الإشارات اللفظية والجسدية وعلى تداعيات الشيخوخة على السياسة الخارجية.
أصبح سينغمان ري النقطة المحورية للسياسة الأمريكية في كوريا الجنوبية بعدما أصبح أول رئيس لبلاده عن عمر يناهز 73 عامًا.
وفي كثير من الأحيان لم يرض المسؤولون الأمريكيون عن طريقته في حكم كوريا الجنوبية التي كانت تدعمها واشنطن في الحرب الكورية، ومع ذلك اعترفوا بأنه "كان وطنيًا عجوزًا وذكيًا ومثابرًا في المساومة ويعرف كيف يحصل على ما يريد وعادة ما يفعل ذلك"، بحسب تعبير جنرال أمريكي في مذكرة عام 1952.
هذا الوصف يكشف عن نظرة إيجابية لشيخوخة "ري" لكن الأمر تغير في أواخر خمسينيات القرن الماضي عندما لاحظ المسؤولون الأمريكيون علامات متزايدة على تقدمه قي السن.
ففي زيارته إلى كوريا الجنوبية عام 1956، قال وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس "حاولت أن أعطيه بعض الانطباعات عن رحلتي، لكنه أبدى القليل من الاهتمام".
وعام 1957 ذكر والتر داولينغ، السفير الأمريكي لدى كوريا الجنوبية، أكثر من مرة أن ري "بدأ يبدو ويتصرف كرجل عجوز جدًا"، مشيرا إلى علامات عديدة على "التدهور الملحوظ" وبعد عامين قال إنه "ينسى بشكل متزايد، ومن الضروري إعادة شرح الأفكار والاقتراحات قبل أن يفهم المعنى أو الأهمية".
وتوضح السجلات الأمريكية التي رُفعت عنها السرية أن هذه التقييمات أدت إلى فقدان الثقة في ري كشريك استراتيجي، مما دفع واشنطن إلى دعم خصومه السياسيين المحليين بهدوء، والذين أطاحوا به من السلطة في عام 1960.
أما الزعيم الصيني ماو تسي تونغ فكان نادر الظهور علنا خلال ستينيات القرن الماضي، ولم يتمكن صناع السياسة الأمريكيون من الوصول إليه بشكل مباشر في الاجتماعات الدبلوماسية.
ومن خلال استخلاص ما أمكنهم الحصول عليه من روايات وإشاعات، افترض الكثيرون أن الزعيم المنعزل كان يعاني من الشيخوخة.
أدى هذا الافتراض إلى تضييق نطاق السياسات التي كانت الولايات المتحدة على استعداد لأخذها في الاعتبار في علاقاتها مع الصين حيث تسبب التصور حول تدهور ماو في فشل المقترحات للتقارب مع بكين لتحويلها لشريك استراتيجي ضد الاتحاد السوفيتي.
ولم تتغير وجهات النظر الأمريكية إلا بعدما رأى كيسنغر أداء ماو شخصيا خلال زياراته للصين في أوائل السبعينيات حيث كتب في عام 1973 "لقد كان مثيرًا للإعجاب عقليًا للغاية" وقال إن الرئيس المسن "قاد المحادثة" و"غطى جميع القضايا الدولية الكبرى ببراعة ودقة".
وساعدت هذه التقييمات المتفائلة على توسيع طموحات الولايات المتحدة في التعامل الدبلوماسي مع الصين بعد تهدئة المخاوف من أن حالة ماو الشخصية ووضعه المحلي في الصين ربما تكون من العوامل غير المتوقعة لإثارة المشكلات بين البلدين.
والآن وبعد انسحاب بايدن من السباق فإن احتمالات فوز ترامب تثير المخاوف من أن يصدر القادة الأجانب أحكاما بشأن شيخوخة الرئيس الأمريكي وتداعيات ذلك على السياسة الخارجية لواشنطن.
aXA6IDMuMTQwLjE5Ni41IA== جزيرة ام اند امز