أفضل شيء للتنبؤ بمستقبل المسلمين في أمريكا هو صناعته ضمن أطر الحرية واحترام القانون وسيادة الدستور المكتوب في الحال والمستقبل.
بحلول نوفمبر المقبل تشهد الولايات المتحدة الأمريكية سباق انتخابات التجديد النصفي للكونجرس كما المعتاد كل عامين.
على أن المثير هذه المرة هو عدد المسلمين الساعين لاحتلال مناصب على المستوى الاتحادي أو حتى بالنسبة للولايات المتحدة، فهناك ما يقرب من مائة مسلم مرشح جميعهم تقريباً ينتمون إلى الحزب الديمقراطي، وقلة من بينهم من باشر أعمالاً حكومية فيما قبل.
سوف تكشف الانتخابات القريبة أوضاع الحالة الدينية في الداخل الأمريكي، وأفضل شيء للتنبؤ بمستقبل المسلمين في أمريكا هو صناعته ضمن أطر الحرية واحترام القانون وسيادة الدستور المكتوب في الحال والمستقبل.
يلفت هذا العدد من المرشحين إلى جملة أشياء في المقدمة منها أن المسلمين الأمريكيين قد تركوا وراءهم مشاعر الخوف ونقص الذات أو الدونية التي خلفتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي اعتبر المسلم الأمريكي من جرائها إرهابيا، أو على أحسن الأحوال مشروعا إرهابيا، ولهذا فقد فضل غالبيتهم ترك ساحة العمل السياسي إلى حين مرور العاصفة.
على أن الترشيحات الأخيرة للمسلمين الأمريكيين تأتي في ظل رئيس متهم بمتلازمة "الإسلاموفوبيا" أو إرهاب الإسلام إن جاز التعبير، وقد تساءل الجميع منذ بداية ولايته عن درجة المواطنة التي يشغلها الأمريكي المسلم، وهل هو مواطن كامل الأهلية، ّأم هو درجة ثانية، منقوص الولاء، مشكوك في مواطنته، وتغلب الأبعاد العرقية والدينية على الهوية الأمريكية؟
يمكن القطع بأن الدافع وراء هذا التساؤل هو القرارات الرئاسية التي استهل بها الرئيس ترامب ولايته الأولى في شأن منع مواطني دول بعينها من دخول أمريكا خوفا على أمن البلاد، وكان أن وجدت تلك الدول إسلامية بشكل شبه تام.
والشاهد أنه لا يمكن الحديث عن أحوال مسلمي أمريكا قبل أن نتحرى هوية تلك البلاد، وهل هي دولة دينية أم أنها دولة مدنية؟
دعونا نعود إلى مشهدين حاسمين في التاريخ الأمريكي أحدهما بعيد بعض الشيء ويعود إلى العام الأول من القرن التاسع عشر، فيما الثاني حديث نسبياً، ويتصل بمنتصف القرن العشرين.
في خطاب تنصيبه نهار الرابع من مارس/آذار من عام 1801 قال الرئيس الثاني للبلاد "توماس جيفرسون" صاحب المصحف الشهير في الداخل الأمريكي والمعروف بـ"مصحف توماس جيفرسون": "إن الجميع أيضاً سيأخذون في الاعتبار هذا المبدأ المقدس، بأنه على الرغم من ضرورة سيادة الغالبية في الحالات كلها، فإن تلك الإرادة لتكون سليمة يجب أن تكون معقولة، وأن تحصل الأقلية على حقوقها المتساوية، التي يجب أن يحميها قانون متماثل وأن الانتهاك سيعد ظلماً......".
في تلك الخطبة التاريخية لجيفرسون الذي اعتبره الأمريكيون وقتها رئيسا مسلما "دعا الأمريكيين للتفكير في بلادهم وكيف أنها بعيدة كل البعد عن التعصب الديني الذي نزفت وعانت منه البشرية طويلاً جداً، وأضاف: "لن نكون قد كسبنا حتى الآن إلا القليل إذا قبلنا تعصباً سياسياً، بل إن الأمر سيكون استبداداً شريراً ومتمكناً مثل الاضطهاد المريع والدامي".
بعد نحو قرن ونصف بسنوات قليلة وحين كان الرئيس الأمريكي "دوايت ايزنهاور" يفتتح المسجد المركزي الإسلامي في العاصمة واشنطن في 28 يونيو/حزيران عام 1957 وجدناه يتحدث بالقول الثمين التالي: "وأود أن أطمئنكم، يا أصدقائي المسلمين، بأنه في ظل الدستور الأمريكي، وفي ظل التقليد الأمريكي، وفي القلوب الأمريكية، هذا المركز، مكان العبادة هذا، مرحب به بقدر ما يمكن لمنشأة مماثلة لأي دين آخر، وأضاف :"وفي الحقيقية إن أمريكا ستحارب بكل قوتها من أجل حقوقكم في الحصول هنا على مكان عبادتكم وتتعبدون وفقاً لضميركم، هذا المفهوم في الحقيقة هو جزء من أمريكا، ومن دون ذلك المفهوم سنكون شيئاً مختلفاً عما نحن عليه".
هل أضحت أمريكا حقاً هذا الشيء المختلف الذى أستشرفه إيزنهاور فيما يخص الحريات الدينية، وبالضبط كما استشرف واقع تآكل الديمقراطية الأمريكية، تحت وقع ضربات مطارق المجمع الضاعي العسكري الأمريكي؟
باختصار غير مخل يتحتم علينا الاعتراف بأن أمريكا دستوريا دولة علمانية الهوية، لكن في واقع الأمر هي دولة مغرقة في الهوي الديني، والروح الأصولية الكتابية متجذرة فيها منذ اليوم الأول لرسو البيورتيايين على سواحلها، وهذه قصة لنا معها قراءة قادمة.
على أن علامة الاستفهام "هل يتوجب على مسلمي البلاد أن يدفعوا فاتورة "فئة ضالة باغية"؟
الحفر عميقاً يبين لنا أن واشنطن لم تكن بريئة بالمطلق، فعلاقاتها مع التيارات الإسلاموية معروفة للقاصي والداني، والجد ايزنهاور نفسه كان أول من التقى مندوبيهم.
ما يهمنا الآن لماذا يلاقي المسلمون الأمريكيون رفضاً مجتمعياً يقطع عليهم حقهم الدستوري في خوض غمار الانتخابات الأمريكية دون خوف أو رعب من قوى اليمين المتطرف في البلاد.
لم يكن "دونالد ترامب" في واقع الحال من أطلق هذا المارد من القمقم منذ انتخابه، فقد سبقه رونالد ريجان في أوائل الثمانينيات، وكان الاتحاد السوفيتي بالنسبة له هو الشر المستطير، فيما زمن بوش الابن، اعتبر تدشين لعهد اليمين الأمريكي المتذرع بالإسلاموفوبيا، لا سيما بعد عبارته الشهيرة مساء الحادي عشر من سبتمبر 2001..."هل يريدونها حربا صليبية .. فليكن لهم أرادوا".
جاء ترامب إلى البيت الأبيض على أسنة جماعات يمين الوسط واليمين المتطرف على حد سواء، وفي هذا الإطار يضحي من الطبيعي أن تتشكى المحامية الأمريكية المسلمة "دريدا عبود" والتي تخوض حالياً السباق الانتخابي للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي لعضوية مجلس الشيوخ الامريكي عن ولاية إريزونا، من أن الأمريكيين باتوا يطلقون عليها "صاحبة العمامة" في إشارة إلى ارتدائها الحجاب، ليس هذا فقط بل مجابهتها صراحة من قبل البعض بأنه لا يجب السماح للمسلمين بشغل أي مناصب حكومية في الولايات المتحدة، وقد بلغ الإرهاب المعنوي والمادي لها أن محتجين تظاهروا بالسلاح قرب فعاليات انتخابية كانت تحضرها.
فرق كبير بين الدستور المكتوب في الأوراق، والآخر الكائن في الصدور، كيف لا وهناك فرق من المنظرين المؤدلجين الكبار، الذين هيأوا الأرضية لهذا الصراع الفكري العقيم والسقيم، من طراز هنتنجتون وفوكاياما، وهما من تلاميذ برنارد لويس، بطريرك الاستشراق، وزارع الألغام الذي رحل منذ فترة قريبة عن دنيانا.
التحدي بالنسبة لمسلمي أمريكا البالغين نحو 3.3 مليون مسلم صعب وطويل ولكنه ليس بالمستحيل، وأفضل طريق يمكن لهم اتباعه هو الحديث عن أولويات المواطن الأمريكي وكيف يمكن لهم أن يقدموا أفضل الخدمات وأن يقوموا على صالحه في صحوه ومنامه، وبعيداً عن إشكالية الهوى الديني لملايين الأمريكيين، ولهم في نضال "مارتن لوثر كنج" مثال جيد في رجل كان لديه حلم، وناضل سلمياً من أجل الوصول إليه.
أغلب الظن أن نضال مسلمي أمريكا لا بد وأن يجرى في مضمار الرأي العام الأمريكي، وبهدف تغيير الصورة النمطية السلبية، والتي نجح البعض من الذين لا يتمنون لنا الخير في بسطها، فقط أظهر استطلاع أخير للرأي أجراه معهد "بيو" الموثوق أن الشعب الأمريكي يعتقد أن 51% من المسلمين الأمريكيين لا يحترمون مثل البلاد وقوانينها، في حين فضل واحد من بين كل خمسة أمريكيين حرمان المسلمين الأمريكيين من حقهم في التصويت.
سوف تكشف الانتخابات القريبة أوضاع الحالة الدينية في الداخل الأمريكي، وأفضل شيء للتنبؤ بمستقبل المسلمين في أمريكا هو صناعته ضمن أطر الحرية واحترام القانون وسيادة الدستور المكتوب في الحال والمستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة